الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
قد كنت وعدت بنشر خواطري على كلام ابن حزم في الأصول ، وهي في الأساس تعليقات على كتاب (الإحكام) وكنت أدمن النظر فيه ، أو بالأصح في بعض مباحثه التي اشتر فيها الخلاف بين الظاهرية وغيرهم، ثم أنه عَنَّ لي في فترة ما حفظ كتاب (النبذ) وابتدأت أعلق عليه ، لكنها تعليقات يسيرة مقتضبة لم تستوعب الكتاب، لأني كنت قد عزفت عن مذهب أهل الظاهر عموماً وعن اختيارات ابن حزم رحمه الله خصوصاً. فبدا لي أن أنقل من تعليقاتي على (الإحكام) ما يتناسب مع كتاب (النبذ) لأني أريد أن أكتب شيئاً وأكمله ، فإني أزيد على أصل التعليق كثيراً، ولو جعلت الأصل تعليقاتي على (الإحكام) لما انتهيت إلا في مدة مديدة.
ثم هذه التعليقات لا أذكر فيها حجج القول الصحيح ، بل ولا الحجج على بطلان قوله بشكل مطلق ، بل أقتصر فيها على ما يرد على عباراته أو الحجج على بطلان قوله كما عرضه خاصة ، وعليه جريتُ في عامة الخواطر إلا في النادر حيث ربما ذكرت الحجج في الجملة بشرط أن تكون واردة على ابن حزم بحسب أصوله، أو لبيان أن خصمه لم يقل قوله عن تشهي أو اتباعاً للهوى، ولا أكتفي بأن تكون الحجة صحيحة في نظري ولو كان ذلك قول الجمهور.
وأنبه أني لا أراجع ، ما أكتب مللاً ، لإنه يثقل علي إعادة القراءة، لكني إذا انتهيت إن شاء الله من الخواطر عموماً فسأعيد النظر في جميعها إن شاء الله.
وأنا أرجو من يرى خطأً أو استدراكاً لازماً أن يشارك به ، فإنه لا شك يعين في تصحيح الخطأ ويسهل المراجعة ، ويقوي الثقة بالمكتوب ، واستدراكات الآخرين وتصويباتهم بعض مقاصد النشر.
الكلام في الإجماع ، وما هو ؟
قال رحمه الله : (فَنَظَرْنَا فِي هَذَا القَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول من قَالَ ان أهل الْعَصْر الَّذِي اجماعهم هُوَ الاجماع الَّذِي أَمر الله تَعَالَى باتباعه هم الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَقَط فوجدناه صَحِيحا لبرهانين:
أَحدهمَا : أَنه اجماع لَا خلاف فِيهِ من أحد ، وَمَا اخْتلف قطّ مسلمان فِي أَن مَا أجمع عَلَيْهِ جمع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون خلاف من أحد مِنْهُم اجماعا متيقنا مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ فانه اجماع صَحِيح لَا يحل لأحد خِلَافه)
هذا أول البرهانين وهو احتجاج على الإجماع بالإجماع ، وهو باطل لا محالة.
ونقول : الذين أجمعوا على أن إجماع الصحابة هل هم الصحابة أم عصر آخر غير عصرهم؟
أما الأول فباطل من جهتين :
الأول : إنه احتجاج على الشيء بنفسه كما تقدم.
الثاني : المطالبة بالنقل عن جميع الصحابة. ولا نقل سوى الدعوى ، وهو لا يقبل النقل عن صحابي واحد إلا بالسند الصحيح المتصل ، فكيف نقبل دعواه على جميع الصحابة بغير سند أصلاً؟!
أما الثاني ، وهو أن الإجماع على حجية إجماع الصحابة هو إجماع عصر آخر بعدهم ، فجوابه من أربعة أوجه:
الأولين المذكورين سابقاً .
والثالث : أنه صرح بأن إجماع من بعد الصحابة ليس بحجة.
والرابع : أن ننقضه بنقل الخلاف في الإجماع ككل ، فقد نقل غير واحد الإختلاف في إمكان الإجماع في نفسه عن الإمامية.
ونُقل الخلاف في إمكان العلم بالإجماع على فرض إمكان وقوعه ، ونقلوا هنا قول أحمد : "وما يدريه لعل الناس اختلفوا" وابن حزم ظاهري حتى في كلام الناس، فليس له أن يرده بتأويل من تأوله وأخرجه عن ظاهره.
ونقلوا أيضاً الخلاف في حجيته على فرض إمكانه في نفسه وإمكان العلم به نقلوا هنا قول النظام وبعض الخوارج وبعض الإمامية.
قال رحمه لله : (وَالثَّانِي ـ أي من البرهانين الضرورين على أن إجماع الصحابة حجة ـ أَنه قد صَحَّ أَن الدّين قد كمل بقوله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} واذ قد صَحَّ ذَلِك فقد بَطل أَن يُزَاد فِيهِ شَيْء، وَصَحَّ أَنه كمل، فقد اتفقنا أَنه كُله مَنْصُوص عَلَيْهِ من عِنْد الله عز وَجل.
واذا كَانَ هُوَ كَذَلِك فَمَا كَانَ من عِنْد الله تَعَالَى فَلَا سَبِيل الى مَعْرفَته إِلَّا من قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي يَأْتِيهِ الْوَحْي من عِنْد الله، والا فَمن نسب الى الله تَعَالَى أمراً لم يَأْتِ بِهِ عَن الله عهد فَهُوَ قَائِل على الله تَعَالَى مَالا علم لَهُ بِهِ، وَهَذَا مقرون بالشرك وَوَصِيَّة ابيلس، قَالَ الله تَعَالَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ}
فاذن قد صَحَّ أَنه لَا سَبِيل الى معرفَة مَا أَرَادَ الله تَعَالَى الا من قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يكون الدّين الا من عِنْد الله تَعَالَى؛ فالصحابة رضى الله عَنْهُم هم الَّذين شاهدوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسمعوه فاجماعهم على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ هُوَ الاجماع المفترض اتِّبَاعه لأَنهم نقلوه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الله تَعَالَى بِلَا شكّ)
أقول : لو أعرضنا عن هذا واكتفينا بأنه مجرد كلام ، لكفى.
ولكن قطعاً للغشب نقول : لو أن أحدهم زاد فقال ، والتابعين هم الذين شاهدوا الصحابة وسمعوا ما عندهم من الوحي الذي سمعوه عن رسول الله فإجماع التابعين على ما أجمعوا عليه هو المفترض اتباعه لأنه نَقْلٌ عن الصحابة الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نعيد الكلام في أتباع التابعين ثم أتباعهم إلى قيام الساعة، لكانت حجته من جنس حجة ابن حزم.
وهذا جواب إجمالي أما التفصيلي فنقول :
قوله : (واذ قد صَحَّ ذَلِك فقد بَطل أَن يُزَاد فِيهِ شَيْء، وَصَحَّ أَنه كمل، فقد اتفقنا أَنه كُله مَنْصُوص عَلَيْهِ من عِنْد الله عز وَجل)
أقول : دعوى الإتفاق باطلة ، فإن كثير من العلماء يزعمون أن النصوص محدودة والوقائع غير محدودة ، لذا قالوا بالقياس والاستحسان والاستصلاح وغير ذلك مما ليس بنص كتاب ولا سنة، وقد نقل هذا عنهم ابن حزم نفسه في (الإحكام) فكيف صح له ادعاء الإتفاق؟!
وعليه بطل ما بناه على هذا الإتفاق المزعوم.
فإن قال : كلام المخالف مردود بقوله سبحانه {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ}.
قلنا : الإجماع المزعوم باطل سواءً أخطأ المخالف أو أصاب.
ثم المخالف يزعم أن القياس والاستحسان والاستصلاح وغيرها من دين الله كما سيأتي قريباً .
وأيضاً : من أين قلتم أن الإجماع إذا كان عن نص فلا إجماع إلا إجماع الصحابة ، ولماذا لا يجوز أن يكون إجماع غير الصحابة هو أيضاً عن نص وهو حجة أيضاً كإجماع الصحابة؟
إن قال : لو كان ثمة نص أجمعوا عليه ، لما خفي على الصحابة ، بل إن النص لا يصل إلى المجمعين عليه من غير الصحابة إلا عن طريق نقل الصحابة.
قلنا : وبهذا نقول ، ولكن يجوز أن ينقله بعض الصحابة ولا يعلمه البعض الآخر فيختلفوا ، ويعلم به من بعدهم فيجمعوا عليه ويكون هو مستند إجماعهم.
ويجوز أيضاً أن يكون الصحابة مجمعين عليه ، ولكن لم ينقل لنا إجماعهم ، وأجمع من بعدهم ونقل لنا إجماعهم.
فبطل الاختصاص المزعوم.
قال رحمه الله ص30 : (ثمَّ نَظرنَا فِي القَوْل الثَّالِث وَهُوَ ان اجماع الصَّحَابَة اجماع صَحِيح وَأَن اجماع أهل عصر مَا مِمَّن بعدهمْ اجماع ايضا وان لم يَصح فِي ذَلِك عَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اجماع فوجدناه بَاطِلا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا:
1. أما أَن يجمع أهل ذَلِك الْعَصْر على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم.
2. واما ان يجمعوا على مَا لم يَصح فِيهِ اجماع وَلَا اخْتِلَاف، لَكِن :
أ. اما على أَمر لم يحفظ فِيهِ عَن أحد من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم قَول.
ب. وَأما على أَمر حفظ فِيهِ عَن بَعضهم قَول وَلم يحفظ فِيهِ عَن سائرهم شَيْء.
فان كَانَ اجماع أهل الْعَصْر الْمُتَأَخر عَنْهُم على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فقد غنينا باجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَوَجَب فرض اتِّبَاعه على من بعدهمْ.
وَلَا يجوز أَن يزِيد اجماع الصحابه قُوَّة فِي ايجابة مُوَافقَة من بعدهمْ لَهُم كَمَا لاتقدح فِيهِ مُخَالفَة من بعدهمْ لَو خالفوهم بل من خالفهم وخرق الأجماع الْمُتَيَقن على علم مِنْهُ بِهِ فَهُوَ كَافِر اذا قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ بذلك وَتبين لَهُ الْأَمر وعاند الْحق)
أقول : أولاً الكلام على إجماع من بعد الصحابة من حيث هو من غير نظر إلى موافقتهم لإجماع غيرهم أو مخالفتهم له، وكل ما استدل به على حجية الإجماع فهو صالح للاحتجاج به على حجية إجماع أي عصر كان.
أما كون إجماع الصحابة أغنى عن الإجماع بعده ، فهو كقولنا : الصحابة إما أن يجمعوا عن مستند أو على غير مستند ، فإن كان عن مستند غنينا به عن إجماع الصحابة.
وكذا نقول : لا يجوز القول بأن المستند يزيد قوةً بإجماع الصحابة عليه كما لا يقدح فيه مخالفتهم له لو خالفوه ، بل من خالف المستند المتيقن على علم منه وبعد قيامة الحجة عليه وتبيينه له وعاند الحق فيه فقد كفر.
فإن قيل : قد لا يبلغنا المستند، فيكون إجماع الصحابة دليلاً عليه، وأيضاً لا يتصور إجماع الصحابة على مخالفة المستند أو إجماعهم على الكفر.
قلنا : وكذا إجماع الصحابة قد لا يبلغنا ، فإنه ربما تعذر علينا الوصول إلى قول بعضهم أو خفي النقل لإجماعهم، فلا يكون مغنياً عن إجماع من بعدهم على فرض حصول إجماعهم. كما لا يتصور إجماع من بعد الصحابة على خلاف إجماع الصحابة ، ولا يتصور في من بعدهم الإجماع على الكفر.
ثم نقول : قد ينقل إجماع الصحابة إلينا بطريق لا تفيد العلم اليقيني ، وينقل إجماع من بعدهم نقلاً متواتراً ، فنستفيد، أو يكون إجماع الصحابة ظني الدلالة بنقل ألفاظ غير يقينية الدلالة عنهم ، ويجمع من بعدهم إجماعاً يقيني الدلالة على حكم ما أجمعوا عليه ، وهكذا فنستفيد أيضاً.
هذا كله على فرض أن إجماع من بعد الصحابة جاء موافقاً لإجماع الصحابة.
قال رحمه الله : ( وان كَانَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا صَحَّ فِيهِ اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَهَذَا بَاطِل وَلَا يجوز ان يجْتَمع اجماع وَاخْتِلَاف فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا ضدان والضدان لَا يَجْتَمِعَانِ مَعاً، واذا صَحَّ الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَلَا يجوز ان يحرم على من بعدهمْ مَا حل لَهُم من النّظر وَأَن يمنعوا من الاجتهاد الَّذِي أداهم الى الِاخْتِلَاف فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة اذا أدّى انسان بعدهمْ دَلِيل الى مَا أدّى اليه دَلِيل بعض الصَّحَابَة لِأَن الدّين لَا يحدث على مَا قُلْنَا قبل)
أقول : إن أراد أن اجتماع الخلاف والاجتماع في المسألة الواحدة في الزمان الواحد من وجه واحد باطل ، فنعم نسلمه بدلالة العقل، والباطل هنا بمعنى المستحيل.
وإن أراد الإحماع والخلاف في المسألة والواحدة في زمانين أو من وجهين مختلفين باطل ، فهذا لا برهان له به، وما كان كذلك فلا يجوز اتباعه فيه، وسيأتي البرهان على صحة وقوع الإجماع والإختلاف في المسألة الواحدة في زمانين مختلفين أو من وجهين مختلفين.
قوله (واذا صَحَّ الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَلَا يجوز ان يحرم على من بعدهمْ مَا حل لَهُم من النّظر) باطل لا محالة ، وبيانه أن اختلاف الصحابة إما أن يكون من عند الله أو لا يكون، وقد بطل أن يكون الخلاف من عند الله كما قدمه هو في أول المسألة ، فبطل أن يكون حلالا للصحابة ذلك الإختلاف، إذ الحلال ما أحله الله ، وقد أبطل هو أن يكون الاختلاف من عند الله، فبطل أن يكون حلالا.
وإذا لم يكن حلالاً كان حراماً باطلاً ، وكل ما كان كذلك فهو ممنوع وكل ما أدى إليه ممنوع أيضاً إذ الحق لا يؤدي إلى باطل ، فعلمنا أن المؤدي إلى الباطل باطل.
فإذا عرفت هذا فإن النظر الذي قاد إلى هذا الخلاف هو أيضاً باطل ، وبيانه أن النظر هنا نظر ينقسم إلى نظر الصحابة الذين وصلوا به إلى الحق والثاني نظر الصحابة الذين أدى بهم النظر إلى الباطل ، فالنظر الثاني هو سبب الخلاف إذ لو كان حقاً لأدى إلى الحق الذي قالت به الجماعة المخالفة لهم.
ومع ذلك فإنا لا نؤثم أحداً منهم لأنهم لم يتعمدوا باطلاً ولا خلا فعلهم من عذر، فإن من لم يبلغه النص المخصص مثلاً فعمل بالعام ، فإنه لا يعلم أن العموم هنا غير مراد وأن العمل به خطأ ، ولا يسعه سوى العمل بما بلغه.
فإن أجمع من بعدهم على قول بعضهم ، فقد انتقلوا مما حرم الله من الإختلاف إلى ما فرضه عليهم من الإجتماع ، وبطل أن يجوز الإختلاف بعد ذلك بدعوى أنه قد حل للصحابة النظر الذي أدى إلى اختلافهم ، لما تقدم من كون اختلافهم السابق حرام من حيث هو اختلاف ، وأن النظر الذي أدى إلى الاختلاف ـ وهو نظر الجماعة المخطئة ـ ليس بحلال.
ولا يجوز أن يقال أن الصحابة المختلفون أباح كل واحدٍ منهم لصاحبه النظر مطلقاً ، بل ما منهم إلا ويعتقد أن الصواب معه وأن على مخالفه مخطئ في قوله ونظره ، وأن الصواب أن يتركه ويرجع إلى قوله.
فهذا إجماع على عكس مدعى ابن حزم.
فإن قيل : قد يجوز أن لا يكون الصحابي مستيقناً من قوله فلا يجزم بخطأ خصمه لا في نظره ولا في ثمرة ذلك النظر.
قلنا : هذا لا يجري على قول ابن حزم المطالب باليقين ، ونسلمه ثم نقول : فإما أن يكون جميع الصحابة المختلفين ظانين ظناً وغير مستيقينين من النظر وثمرته فيما اختلفوا فيه ، يكون بعضهم ظاناً وبعضهم مستيقنا.
وعلى الأول : يكون إجماعاً على جواز العمل بالظن ، وهو خلاف مذهب ابن حزم الذي يشترط اليقين في معرفة الأحكام، بل وفي طرقها. وليس فيه مع ذلك أنهم يصححون قول الخصم ولا نظره الموصل إليه ، بل هم في هذه الحال يظنون أن الخصم مخطئ في قوله ونظره، وأن عليه أن يترك ذلك إلى قول المحق ونظره ؛ فلا إجماع على إباحة ذلك النظر بخصوصه.
وإن كان بعضهم مستيقن وبعضهم ظان فالأمر أوضح.
وإذا عرفت هذا واتضح لك أن الخلاف ليس من عند الله فقد بطل أن يكون الإختلاف أو ما أدى إليه من الدين الذي كمله الله سبحانه خلافاً لقول ابن حزم رحمه الله.
وقال رحمه الله : (وبرهان آخر وَهُوَ أَن هَؤُلَاءِ أهل هَذَا الْعَصْر الْمُتَأَخِّرين وَمن وافقوه من الصَّحَابَة أَنما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِيَقِين اذا لم يدْخل فيهم من روى عَنهُ الْخلاف فِي ذَلِك من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم واذ لَا شكّ فِي أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ فقد بَطل ان يكون اجماع لِأَن الاجماع انما هُوَ اجماع جمع الْمُؤمنِينَ لَا اجماع بَعضهم لِأَن الله تَعَالَى نَص على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر})
وكذا كرر الاستدلال بهذه البعضية فيما لو وقع الإجماع على لم يحفظه فيه عن الصحابة إجماع ولا خلاف فقال : (ثمَّ نَظرنَا فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا لم يحفظ فِيهِ اجماع وَلَا خلاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لَكِن اما على حكم حفظ فِيهِ قَول عَن بعض الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون بعض أَو لم يحفظ فِيهِ عَن أحد مِنْهُم من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم شَيْء فوجدناه لَا يَصح لبرهانين
أَحدهمَا أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ لَا كلهم وَلم يَقع قطّ على أهل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اسْم جَمِيع الْمُؤمنِينَ لأَنهم قد سلف قبلهم خِيَار الْمُؤمنِينَ فاذن أهل كل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم انما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِلَا شكّ وَعَلِيهِ فقد بَطل أَن يكون اجماعهم اجماع الْمُؤمنِينَ وَلم يُوجب الله تَعَالَى علينا قطّ اتِّبَاع سَبِيل بعض الْمُؤمنِينَ وَلَا طَاعَة بعض أولى الْأَمر وَأما الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فانهم فِي عصرهم كَانُوا جَمِيع أولى الْأَمر اذ لم يتكن مَعَهم أحد غَيرهم فصح أَن اجماعهم هُوَ اجماع جَمِيع الْمُؤمنِينَ بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبَطل ذَلِك القَوْل جملَة)
أقول : مقتضى هذا القول أن لا يلزم أحد من الناس اتباع لإجماع ، ويكون أمر الله بذلك باطلاً ، وهذا كفر ممن أجازه إذا علمه وعاند فيه ، كذا قاله ابن حزم ص 25 .
وبيان أن كلام ابن حزم يقتضي أنه لا يلزم أحد اتباع الإجماع أن الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إجماع لهم ، لإنه إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المجمعين فالحجة في قوله خاصة ، وإن لم يكن معهم ، فلا حجة في قولهم بيقين لا يشك فيه مؤمن. وبعد موته هم بعض المؤمنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس المؤمنين .
ولو تنزلنا وقلنا : لا يؤثر موته صلى الله عليه وسلم في الإجماع بعده ، والكلام في أمته فقط ، قلنا : فلا إجماع بعد موت ورقة نوفل ومن بعده من الصحابة قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الصحابة بعدهم بعض المؤمنين كما قال ابن حزم.
وبذلك تبطل جميع دعاوى الإجماع ويصح أنه لا يلزم أحد اتباع الإجماع وأن أمر الله سبحانه بذلك باطل، وهو ما جعل ابن حزم ادعاءه كفراً ممن أجازه إذا علمه وعاند فيه.
ثم نقول : لو تنزلنا وقلنا العبرة بمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنا نقول : فالصحابة ليسوا جميع المؤمنين ، لأنه قد جاء بعدهم الكثير من المؤمنين ، فهم بعض المؤمنين.
فإن قيل : العبرة بالمؤمنين زمن الإجماع .
قلنا : فيستوي بذلك كل عصر ، فالعبرة هم بإجماع جميع مؤمني ذلك العصر ـ طبعاً بشروطه من تحقق الاجتهاد فيهم ـ .
فإن قيل : لا عبرة بمن سيخلق وإنما العبرة بمن خلق فقط.
قلنا : هذه دعوى ، ولا برهان فهي باطلة، فإنه إذا جاز الاعتداد بمن لا وجود له ممن مضى ، لجاز الاعتداد بمن لا وجود له ممن سيأتي، لأن المقصود تحقيق الكلية والبعضية، والاعتداد بغير الموجود في في عصر دون آخر يستوي فيه الماضي والآتي.
سلمنا : فنقول فلا إجماع بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه ، وكانت ماتت بعده بستة أشهر. ثم الصحابة بعد ذلك لم يكونوا جميع المؤمنين فقد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لم يصحبوه ولا رؤوه ، وقد عرف كثير منهم ، وهم من يسمون بالمخضرمين ، ولم يعرف أكثرهم. فالصحابة في كل وقت وحال بعض المؤمنين لا كلهم.
فصح أن قول ابن حزم يؤدي إلى أن لا يلزم أحد من الناس اتباع الإجماع ، وأن أمر لله بذلك باطل.
فإذا فهمت هذا علمت أن قوله رحمه الله هو الباطل ، لا أمر الله سبحانه بالاجتماع وباتباع الإجماع.
... يتبع ...
قد كنت وعدت بنشر خواطري على كلام ابن حزم في الأصول ، وهي في الأساس تعليقات على كتاب (الإحكام) وكنت أدمن النظر فيه ، أو بالأصح في بعض مباحثه التي اشتر فيها الخلاف بين الظاهرية وغيرهم، ثم أنه عَنَّ لي في فترة ما حفظ كتاب (النبذ) وابتدأت أعلق عليه ، لكنها تعليقات يسيرة مقتضبة لم تستوعب الكتاب، لأني كنت قد عزفت عن مذهب أهل الظاهر عموماً وعن اختيارات ابن حزم رحمه الله خصوصاً. فبدا لي أن أنقل من تعليقاتي على (الإحكام) ما يتناسب مع كتاب (النبذ) لأني أريد أن أكتب شيئاً وأكمله ، فإني أزيد على أصل التعليق كثيراً، ولو جعلت الأصل تعليقاتي على (الإحكام) لما انتهيت إلا في مدة مديدة.
ثم هذه التعليقات لا أذكر فيها حجج القول الصحيح ، بل ولا الحجج على بطلان قوله بشكل مطلق ، بل أقتصر فيها على ما يرد على عباراته أو الحجج على بطلان قوله كما عرضه خاصة ، وعليه جريتُ في عامة الخواطر إلا في النادر حيث ربما ذكرت الحجج في الجملة بشرط أن تكون واردة على ابن حزم بحسب أصوله، أو لبيان أن خصمه لم يقل قوله عن تشهي أو اتباعاً للهوى، ولا أكتفي بأن تكون الحجة صحيحة في نظري ولو كان ذلك قول الجمهور.
وأنبه أني لا أراجع ، ما أكتب مللاً ، لإنه يثقل علي إعادة القراءة، لكني إذا انتهيت إن شاء الله من الخواطر عموماً فسأعيد النظر في جميعها إن شاء الله.
وأنا أرجو من يرى خطأً أو استدراكاً لازماً أن يشارك به ، فإنه لا شك يعين في تصحيح الخطأ ويسهل المراجعة ، ويقوي الثقة بالمكتوب ، واستدراكات الآخرين وتصويباتهم بعض مقاصد النشر.
الكلام في الإجماع ، وما هو ؟
قال رحمه الله : (فَنَظَرْنَا فِي هَذَا القَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول من قَالَ ان أهل الْعَصْر الَّذِي اجماعهم هُوَ الاجماع الَّذِي أَمر الله تَعَالَى باتباعه هم الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَقَط فوجدناه صَحِيحا لبرهانين:
أَحدهمَا : أَنه اجماع لَا خلاف فِيهِ من أحد ، وَمَا اخْتلف قطّ مسلمان فِي أَن مَا أجمع عَلَيْهِ جمع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون خلاف من أحد مِنْهُم اجماعا متيقنا مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ فانه اجماع صَحِيح لَا يحل لأحد خِلَافه)
هذا أول البرهانين وهو احتجاج على الإجماع بالإجماع ، وهو باطل لا محالة.
ونقول : الذين أجمعوا على أن إجماع الصحابة هل هم الصحابة أم عصر آخر غير عصرهم؟
أما الأول فباطل من جهتين :
الأول : إنه احتجاج على الشيء بنفسه كما تقدم.
الثاني : المطالبة بالنقل عن جميع الصحابة. ولا نقل سوى الدعوى ، وهو لا يقبل النقل عن صحابي واحد إلا بالسند الصحيح المتصل ، فكيف نقبل دعواه على جميع الصحابة بغير سند أصلاً؟!
أما الثاني ، وهو أن الإجماع على حجية إجماع الصحابة هو إجماع عصر آخر بعدهم ، فجوابه من أربعة أوجه:
الأولين المذكورين سابقاً .
والثالث : أنه صرح بأن إجماع من بعد الصحابة ليس بحجة.
والرابع : أن ننقضه بنقل الخلاف في الإجماع ككل ، فقد نقل غير واحد الإختلاف في إمكان الإجماع في نفسه عن الإمامية.
ونُقل الخلاف في إمكان العلم بالإجماع على فرض إمكان وقوعه ، ونقلوا هنا قول أحمد : "وما يدريه لعل الناس اختلفوا" وابن حزم ظاهري حتى في كلام الناس، فليس له أن يرده بتأويل من تأوله وأخرجه عن ظاهره.
ونقلوا أيضاً الخلاف في حجيته على فرض إمكانه في نفسه وإمكان العلم به نقلوا هنا قول النظام وبعض الخوارج وبعض الإمامية.
قال رحمه لله : (وَالثَّانِي ـ أي من البرهانين الضرورين على أن إجماع الصحابة حجة ـ أَنه قد صَحَّ أَن الدّين قد كمل بقوله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} واذ قد صَحَّ ذَلِك فقد بَطل أَن يُزَاد فِيهِ شَيْء، وَصَحَّ أَنه كمل، فقد اتفقنا أَنه كُله مَنْصُوص عَلَيْهِ من عِنْد الله عز وَجل.
واذا كَانَ هُوَ كَذَلِك فَمَا كَانَ من عِنْد الله تَعَالَى فَلَا سَبِيل الى مَعْرفَته إِلَّا من قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي يَأْتِيهِ الْوَحْي من عِنْد الله، والا فَمن نسب الى الله تَعَالَى أمراً لم يَأْتِ بِهِ عَن الله عهد فَهُوَ قَائِل على الله تَعَالَى مَالا علم لَهُ بِهِ، وَهَذَا مقرون بالشرك وَوَصِيَّة ابيلس، قَالَ الله تَعَالَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ}
فاذن قد صَحَّ أَنه لَا سَبِيل الى معرفَة مَا أَرَادَ الله تَعَالَى الا من قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يكون الدّين الا من عِنْد الله تَعَالَى؛ فالصحابة رضى الله عَنْهُم هم الَّذين شاهدوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسمعوه فاجماعهم على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ هُوَ الاجماع المفترض اتِّبَاعه لأَنهم نقلوه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الله تَعَالَى بِلَا شكّ)
أقول : لو أعرضنا عن هذا واكتفينا بأنه مجرد كلام ، لكفى.
ولكن قطعاً للغشب نقول : لو أن أحدهم زاد فقال ، والتابعين هم الذين شاهدوا الصحابة وسمعوا ما عندهم من الوحي الذي سمعوه عن رسول الله فإجماع التابعين على ما أجمعوا عليه هو المفترض اتباعه لأنه نَقْلٌ عن الصحابة الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نعيد الكلام في أتباع التابعين ثم أتباعهم إلى قيام الساعة، لكانت حجته من جنس حجة ابن حزم.
وهذا جواب إجمالي أما التفصيلي فنقول :
قوله : (واذ قد صَحَّ ذَلِك فقد بَطل أَن يُزَاد فِيهِ شَيْء، وَصَحَّ أَنه كمل، فقد اتفقنا أَنه كُله مَنْصُوص عَلَيْهِ من عِنْد الله عز وَجل)
أقول : دعوى الإتفاق باطلة ، فإن كثير من العلماء يزعمون أن النصوص محدودة والوقائع غير محدودة ، لذا قالوا بالقياس والاستحسان والاستصلاح وغير ذلك مما ليس بنص كتاب ولا سنة، وقد نقل هذا عنهم ابن حزم نفسه في (الإحكام) فكيف صح له ادعاء الإتفاق؟!
وعليه بطل ما بناه على هذا الإتفاق المزعوم.
فإن قال : كلام المخالف مردود بقوله سبحانه {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ}.
قلنا : الإجماع المزعوم باطل سواءً أخطأ المخالف أو أصاب.
ثم المخالف يزعم أن القياس والاستحسان والاستصلاح وغيرها من دين الله كما سيأتي قريباً .
وأيضاً : من أين قلتم أن الإجماع إذا كان عن نص فلا إجماع إلا إجماع الصحابة ، ولماذا لا يجوز أن يكون إجماع غير الصحابة هو أيضاً عن نص وهو حجة أيضاً كإجماع الصحابة؟
إن قال : لو كان ثمة نص أجمعوا عليه ، لما خفي على الصحابة ، بل إن النص لا يصل إلى المجمعين عليه من غير الصحابة إلا عن طريق نقل الصحابة.
قلنا : وبهذا نقول ، ولكن يجوز أن ينقله بعض الصحابة ولا يعلمه البعض الآخر فيختلفوا ، ويعلم به من بعدهم فيجمعوا عليه ويكون هو مستند إجماعهم.
ويجوز أيضاً أن يكون الصحابة مجمعين عليه ، ولكن لم ينقل لنا إجماعهم ، وأجمع من بعدهم ونقل لنا إجماعهم.
فبطل الاختصاص المزعوم.
قال رحمه الله ص30 : (ثمَّ نَظرنَا فِي القَوْل الثَّالِث وَهُوَ ان اجماع الصَّحَابَة اجماع صَحِيح وَأَن اجماع أهل عصر مَا مِمَّن بعدهمْ اجماع ايضا وان لم يَصح فِي ذَلِك عَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اجماع فوجدناه بَاطِلا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا:
1. أما أَن يجمع أهل ذَلِك الْعَصْر على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم.
2. واما ان يجمعوا على مَا لم يَصح فِيهِ اجماع وَلَا اخْتِلَاف، لَكِن :
أ. اما على أَمر لم يحفظ فِيهِ عَن أحد من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم قَول.
ب. وَأما على أَمر حفظ فِيهِ عَن بَعضهم قَول وَلم يحفظ فِيهِ عَن سائرهم شَيْء.
فان كَانَ اجماع أهل الْعَصْر الْمُتَأَخر عَنْهُم على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فقد غنينا باجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَوَجَب فرض اتِّبَاعه على من بعدهمْ.
وَلَا يجوز أَن يزِيد اجماع الصحابه قُوَّة فِي ايجابة مُوَافقَة من بعدهمْ لَهُم كَمَا لاتقدح فِيهِ مُخَالفَة من بعدهمْ لَو خالفوهم بل من خالفهم وخرق الأجماع الْمُتَيَقن على علم مِنْهُ بِهِ فَهُوَ كَافِر اذا قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ بذلك وَتبين لَهُ الْأَمر وعاند الْحق)
أقول : أولاً الكلام على إجماع من بعد الصحابة من حيث هو من غير نظر إلى موافقتهم لإجماع غيرهم أو مخالفتهم له، وكل ما استدل به على حجية الإجماع فهو صالح للاحتجاج به على حجية إجماع أي عصر كان.
أما كون إجماع الصحابة أغنى عن الإجماع بعده ، فهو كقولنا : الصحابة إما أن يجمعوا عن مستند أو على غير مستند ، فإن كان عن مستند غنينا به عن إجماع الصحابة.
وكذا نقول : لا يجوز القول بأن المستند يزيد قوةً بإجماع الصحابة عليه كما لا يقدح فيه مخالفتهم له لو خالفوه ، بل من خالف المستند المتيقن على علم منه وبعد قيامة الحجة عليه وتبيينه له وعاند الحق فيه فقد كفر.
فإن قيل : قد لا يبلغنا المستند، فيكون إجماع الصحابة دليلاً عليه، وأيضاً لا يتصور إجماع الصحابة على مخالفة المستند أو إجماعهم على الكفر.
قلنا : وكذا إجماع الصحابة قد لا يبلغنا ، فإنه ربما تعذر علينا الوصول إلى قول بعضهم أو خفي النقل لإجماعهم، فلا يكون مغنياً عن إجماع من بعدهم على فرض حصول إجماعهم. كما لا يتصور إجماع من بعد الصحابة على خلاف إجماع الصحابة ، ولا يتصور في من بعدهم الإجماع على الكفر.
ثم نقول : قد ينقل إجماع الصحابة إلينا بطريق لا تفيد العلم اليقيني ، وينقل إجماع من بعدهم نقلاً متواتراً ، فنستفيد، أو يكون إجماع الصحابة ظني الدلالة بنقل ألفاظ غير يقينية الدلالة عنهم ، ويجمع من بعدهم إجماعاً يقيني الدلالة على حكم ما أجمعوا عليه ، وهكذا فنستفيد أيضاً.
هذا كله على فرض أن إجماع من بعد الصحابة جاء موافقاً لإجماع الصحابة.
قال رحمه الله : ( وان كَانَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا صَحَّ فِيهِ اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَهَذَا بَاطِل وَلَا يجوز ان يجْتَمع اجماع وَاخْتِلَاف فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا ضدان والضدان لَا يَجْتَمِعَانِ مَعاً، واذا صَحَّ الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَلَا يجوز ان يحرم على من بعدهمْ مَا حل لَهُم من النّظر وَأَن يمنعوا من الاجتهاد الَّذِي أداهم الى الِاخْتِلَاف فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة اذا أدّى انسان بعدهمْ دَلِيل الى مَا أدّى اليه دَلِيل بعض الصَّحَابَة لِأَن الدّين لَا يحدث على مَا قُلْنَا قبل)
أقول : إن أراد أن اجتماع الخلاف والاجتماع في المسألة الواحدة في الزمان الواحد من وجه واحد باطل ، فنعم نسلمه بدلالة العقل، والباطل هنا بمعنى المستحيل.
وإن أراد الإحماع والخلاف في المسألة والواحدة في زمانين أو من وجهين مختلفين باطل ، فهذا لا برهان له به، وما كان كذلك فلا يجوز اتباعه فيه، وسيأتي البرهان على صحة وقوع الإجماع والإختلاف في المسألة الواحدة في زمانين مختلفين أو من وجهين مختلفين.
قوله (واذا صَحَّ الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَلَا يجوز ان يحرم على من بعدهمْ مَا حل لَهُم من النّظر) باطل لا محالة ، وبيانه أن اختلاف الصحابة إما أن يكون من عند الله أو لا يكون، وقد بطل أن يكون الخلاف من عند الله كما قدمه هو في أول المسألة ، فبطل أن يكون حلالا للصحابة ذلك الإختلاف، إذ الحلال ما أحله الله ، وقد أبطل هو أن يكون الاختلاف من عند الله، فبطل أن يكون حلالا.
وإذا لم يكن حلالاً كان حراماً باطلاً ، وكل ما كان كذلك فهو ممنوع وكل ما أدى إليه ممنوع أيضاً إذ الحق لا يؤدي إلى باطل ، فعلمنا أن المؤدي إلى الباطل باطل.
فإذا عرفت هذا فإن النظر الذي قاد إلى هذا الخلاف هو أيضاً باطل ، وبيانه أن النظر هنا نظر ينقسم إلى نظر الصحابة الذين وصلوا به إلى الحق والثاني نظر الصحابة الذين أدى بهم النظر إلى الباطل ، فالنظر الثاني هو سبب الخلاف إذ لو كان حقاً لأدى إلى الحق الذي قالت به الجماعة المخالفة لهم.
ومع ذلك فإنا لا نؤثم أحداً منهم لأنهم لم يتعمدوا باطلاً ولا خلا فعلهم من عذر، فإن من لم يبلغه النص المخصص مثلاً فعمل بالعام ، فإنه لا يعلم أن العموم هنا غير مراد وأن العمل به خطأ ، ولا يسعه سوى العمل بما بلغه.
فإن أجمع من بعدهم على قول بعضهم ، فقد انتقلوا مما حرم الله من الإختلاف إلى ما فرضه عليهم من الإجتماع ، وبطل أن يجوز الإختلاف بعد ذلك بدعوى أنه قد حل للصحابة النظر الذي أدى إلى اختلافهم ، لما تقدم من كون اختلافهم السابق حرام من حيث هو اختلاف ، وأن النظر الذي أدى إلى الاختلاف ـ وهو نظر الجماعة المخطئة ـ ليس بحلال.
ولا يجوز أن يقال أن الصحابة المختلفون أباح كل واحدٍ منهم لصاحبه النظر مطلقاً ، بل ما منهم إلا ويعتقد أن الصواب معه وأن على مخالفه مخطئ في قوله ونظره ، وأن الصواب أن يتركه ويرجع إلى قوله.
فهذا إجماع على عكس مدعى ابن حزم.
فإن قيل : قد يجوز أن لا يكون الصحابي مستيقناً من قوله فلا يجزم بخطأ خصمه لا في نظره ولا في ثمرة ذلك النظر.
قلنا : هذا لا يجري على قول ابن حزم المطالب باليقين ، ونسلمه ثم نقول : فإما أن يكون جميع الصحابة المختلفين ظانين ظناً وغير مستيقينين من النظر وثمرته فيما اختلفوا فيه ، يكون بعضهم ظاناً وبعضهم مستيقنا.
وعلى الأول : يكون إجماعاً على جواز العمل بالظن ، وهو خلاف مذهب ابن حزم الذي يشترط اليقين في معرفة الأحكام، بل وفي طرقها. وليس فيه مع ذلك أنهم يصححون قول الخصم ولا نظره الموصل إليه ، بل هم في هذه الحال يظنون أن الخصم مخطئ في قوله ونظره، وأن عليه أن يترك ذلك إلى قول المحق ونظره ؛ فلا إجماع على إباحة ذلك النظر بخصوصه.
وإن كان بعضهم مستيقن وبعضهم ظان فالأمر أوضح.
وإذا عرفت هذا واتضح لك أن الخلاف ليس من عند الله فقد بطل أن يكون الإختلاف أو ما أدى إليه من الدين الذي كمله الله سبحانه خلافاً لقول ابن حزم رحمه الله.
وقال رحمه الله : (وبرهان آخر وَهُوَ أَن هَؤُلَاءِ أهل هَذَا الْعَصْر الْمُتَأَخِّرين وَمن وافقوه من الصَّحَابَة أَنما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِيَقِين اذا لم يدْخل فيهم من روى عَنهُ الْخلاف فِي ذَلِك من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم واذ لَا شكّ فِي أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ فقد بَطل ان يكون اجماع لِأَن الاجماع انما هُوَ اجماع جمع الْمُؤمنِينَ لَا اجماع بَعضهم لِأَن الله تَعَالَى نَص على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر})
وكذا كرر الاستدلال بهذه البعضية فيما لو وقع الإجماع على لم يحفظه فيه عن الصحابة إجماع ولا خلاف فقال : (ثمَّ نَظرنَا فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا لم يحفظ فِيهِ اجماع وَلَا خلاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لَكِن اما على حكم حفظ فِيهِ قَول عَن بعض الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون بعض أَو لم يحفظ فِيهِ عَن أحد مِنْهُم من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم شَيْء فوجدناه لَا يَصح لبرهانين
أَحدهمَا أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ لَا كلهم وَلم يَقع قطّ على أهل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اسْم جَمِيع الْمُؤمنِينَ لأَنهم قد سلف قبلهم خِيَار الْمُؤمنِينَ فاذن أهل كل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم انما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِلَا شكّ وَعَلِيهِ فقد بَطل أَن يكون اجماعهم اجماع الْمُؤمنِينَ وَلم يُوجب الله تَعَالَى علينا قطّ اتِّبَاع سَبِيل بعض الْمُؤمنِينَ وَلَا طَاعَة بعض أولى الْأَمر وَأما الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فانهم فِي عصرهم كَانُوا جَمِيع أولى الْأَمر اذ لم يتكن مَعَهم أحد غَيرهم فصح أَن اجماعهم هُوَ اجماع جَمِيع الْمُؤمنِينَ بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبَطل ذَلِك القَوْل جملَة)
أقول : مقتضى هذا القول أن لا يلزم أحد من الناس اتباع لإجماع ، ويكون أمر الله بذلك باطلاً ، وهذا كفر ممن أجازه إذا علمه وعاند فيه ، كذا قاله ابن حزم ص 25 .
وبيان أن كلام ابن حزم يقتضي أنه لا يلزم أحد اتباع الإجماع أن الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إجماع لهم ، لإنه إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المجمعين فالحجة في قوله خاصة ، وإن لم يكن معهم ، فلا حجة في قولهم بيقين لا يشك فيه مؤمن. وبعد موته هم بعض المؤمنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس المؤمنين .
ولو تنزلنا وقلنا : لا يؤثر موته صلى الله عليه وسلم في الإجماع بعده ، والكلام في أمته فقط ، قلنا : فلا إجماع بعد موت ورقة نوفل ومن بعده من الصحابة قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الصحابة بعدهم بعض المؤمنين كما قال ابن حزم.
وبذلك تبطل جميع دعاوى الإجماع ويصح أنه لا يلزم أحد اتباع الإجماع وأن أمر الله سبحانه بذلك باطل، وهو ما جعل ابن حزم ادعاءه كفراً ممن أجازه إذا علمه وعاند فيه.
ثم نقول : لو تنزلنا وقلنا العبرة بمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنا نقول : فالصحابة ليسوا جميع المؤمنين ، لأنه قد جاء بعدهم الكثير من المؤمنين ، فهم بعض المؤمنين.
فإن قيل : العبرة بالمؤمنين زمن الإجماع .
قلنا : فيستوي بذلك كل عصر ، فالعبرة هم بإجماع جميع مؤمني ذلك العصر ـ طبعاً بشروطه من تحقق الاجتهاد فيهم ـ .
فإن قيل : لا عبرة بمن سيخلق وإنما العبرة بمن خلق فقط.
قلنا : هذه دعوى ، ولا برهان فهي باطلة، فإنه إذا جاز الاعتداد بمن لا وجود له ممن مضى ، لجاز الاعتداد بمن لا وجود له ممن سيأتي، لأن المقصود تحقيق الكلية والبعضية، والاعتداد بغير الموجود في في عصر دون آخر يستوي فيه الماضي والآتي.
سلمنا : فنقول فلا إجماع بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه ، وكانت ماتت بعده بستة أشهر. ثم الصحابة بعد ذلك لم يكونوا جميع المؤمنين فقد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لم يصحبوه ولا رؤوه ، وقد عرف كثير منهم ، وهم من يسمون بالمخضرمين ، ولم يعرف أكثرهم. فالصحابة في كل وقت وحال بعض المؤمنين لا كلهم.
فصح أن قول ابن حزم يؤدي إلى أن لا يلزم أحد من الناس اتباع الإجماع ، وأن أمر لله بذلك باطل.
فإذا فهمت هذا علمت أن قوله رحمه الله هو الباطل ، لا أمر الله سبحانه بالاجتماع وباتباع الإجماع.
... يتبع ...