Quantcast
Channel: الملتقى الفقهي
Viewing all articles
Browse latest Browse all 15662

منقول رفع الاشكال في حديث لعن النامصة والمتنمصة من خلال تراث العلامة بن عاشور

$
0
0
هذه المسألة نقلتها من إحدى بحوثي وذلك لأهميتها ؛ ولكون هذا الحديث وقع فيه الاشكال من جانبين :
من خلال القصور في تصور المسألة (فهم النص)
ومن خلال القصور في تنزيل المسألة على (محالها) من خلال قاعدة (تحقيق المناط)
لذلك نتوكل على الباري سبحانه وتعالى ،،، ونقول :
تزخز مدونة الامام بن عاشور بتحقيقات مقاصدية ، ساهمت في ازالة الخلاف وذلك من خلال الاستنجاد بالدرس المقاصدي ، ومن تلك المسائل التي وقع فيها التباس في تحديد مدلولها ، وتنزيل حكمها مسألة اسميتها (أثر الاختلاف في تعليل مقصد التغيير في خلق الله)
إن الناظر في مدونة الإمام محمد الطاهر بن عاشور ؛ فإنه يتلمس جوانب التجديد المتنوعة ، ونجد المراجعات الكثيرة لكبرى المسائل المعضلة ، وتارة نجده يرفع إشكال لكثير من النصوص التي لم تفهم على حقيقتها والمرجح في ذلك أدوات الدرس المقاصدي .
ولم تسلم مراجعاته لكثير من النصوص من الطعن والرد ، وذلك لكون الناظر في تراث الإمام لا يمكنه أن يصل لحكم واضح دون النظر في كافة كتبه ، فالإمام ابن عاشور لم يكن يستعرض في كثير من بحوثه الأدلة التي اعتمد عليها ، وإنما يترك الأمر للناظر فيها ، وكأنه لا يكتب إلا للعلماء المتخصصين ، وهذا هو السبب حسب رأيي لعدم فهم الكثير من الناظرين في مدوناته لعدم امتلاكهم الأدوات المعينة لهم على الفهم .
ولكي نساهم في رفع الالتباس الحاصل في بعض الفروع الفقهية التي أُسيء فهم اجتهاد الإمام ابن عاشور ، لذا سأحاول النظر في جوانب الموضوع المتعددة ، وذلك من خلال أدوات الدرس الأصولي والمقاصدي .
ومن تلك الفروع التي رفع الإمام الإشكال في بيان مقصود النص فيها حديث : " لعن رسول الله (r) النامصة والمتنمصة ... ؛ فهذا النص من الفروع التي وقع فيها سوء فهم ، وقد تلقاها المتأخرون بالتسليم لها ولم يجتهدوا باستنباط مناطها ، وقد غلب عليهم التقليد والعكوف على كلام السابقين .
فإن هذا النص قد تظمن جملة من القواعد الأصولية التي لا يمكن فهم النص إلا ببيان تعلقها بالنص ، كقاعدة الاجتهاد في فهم النص ، وقاعدة العرف ، وقاعدة بيان المجمل ، وقاعدة التعليل .
وقبل بيان رأي الإمام ابن عاشور فسوف أذكر بعض آراء العلماء لكي نستطيع تقريب رأي الإمام ، ولكي نستطيع أن ندرك مدى الاعتماد على الدرس المقاصدي في فهم النص .
فعن قبيصة بن جابر الأسدي ، قال : انطلقت مع عجوز إلى ابن مسعود ، فذكر قصة ، فقال عبد الله : سمعت رسول الله (r) : يلعن المتنمصات والمتفلجات والموشمات اللاتي يغيرن خلق الله عز وجل)([37]) .
وقد تعددت تأويلات العلماء لهذا الحديث :
فنجد عند الإمام ابن قدامة تفريق بين النمص والحلق بقوله : (فأما النامصة فهي التي تنتف الشعر من الوجه ، والمتنمصة : المنتوف شعرها بأمرها ؛ فلا يجوز للخبر ، وإن حلق الشعر فلا بأس ؛ لأن الخبر إنما ورد في النتف)([38]) .
إن تفسير ابن قدامة هو تفسير حرفي وظاهري ، وليس فيه سبر لمعقول النص ، لأن النتيجة واحدة سواء في النمص أو الحلق ، وهي إزالة الشعر ، فلا يصح من عالم كابن قدامة أن يجمد على النص ولا يعمل الفكر لاستنباط علة التفريق ، وإنما يكون تفسيره ورود الخبر بذلك .
وجاء في حاشية ابن عابدين تفسيراً معقولاً ، بقوله : ( ولعله محمول على ما إذا فعلته لتتزين للأجانب وإلا فلو كان في وجهها شعر فينفر زوجها عنها بسببه ففي تحريم إزالته بُعد ؛ لأن الزينة للنساء مطلوبة للتحسين ...)([39]) .
ويقول صاحب الحاوي في تفسير لفظ الواصلة ( فأما الواصلة والمستوصلة ، ففيه تأويلان : الأول : أنها التي تصل بين الرجال والنساء بالفاحشة ، والثاني : أنها تصل شعرها بشعر نجس )([40]).وهذا التفسير الأخير يتفق مع رأي الإمام ابن عاشور .
وقد ذكر الإمام ابن عاشور هذا الحديث في سياق الحديث عن عموم الشريعة وأن نصوصها خالدة ، لكن بعض نصوصها تحتاج إلى تحقيق مناط خاص بها لاختلاف أسبابها فيقول : (ومن معنى حمل القبية على عوائدها في التشريع إذا روعي في تلك العوائد شيءٌ يقتضي الإيجاب أو التحريم ، يتضح لنا دفعُ حيرةٍ وإشكال ٍ عظيم ٍ يعرضان للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه المفسدة بحال ، مثل تحريم وصل الشعر للمرأة وتفليج الأسنان والوشم ... فإن الفهم يكادُ يضل في هذا ، إذ يرى ذلك صنفاً من أصناف التزيُّن الأذون في جنسه للمرأة كالتحمير والخلوق والسواك فيتعجب من النهي الغليظ عنه .ووجهُهُ عندي الذي لم أر من أفصح عنه ، أنَّ تلك الأحوال كانت عند العرب أماراتٍ على ضعف حصانة المرأة ، فالنهيُ عنها نهيٌ عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك الأعراض بسببها)([41]) .
إن النص السابق يحمل في طياته جملة من المسائل المعقدة ، التي لا يمكن أن نبينها إلا بمحاولة تفكيك العبارة ومن ثم تركيبها ليتم بيان المقصود من النص .
لو نظرنا إلى النص جيداً فإننا سنرى ان الإمام ابن عاشور أناط الحكم في بيان النص إلى العرف اولاً ، لأن معرفة السياق العرفي للنص يمكن لنا بيان الغرض والعلة التي من اجلها شرع الحكم .
وقبل بيان السياق العرفي للنص لا بد من بيان كيفية فهم السياق العرفي من النص ، لذلك فقد حدد الإمام ابن عاشور " رحمه الله تعالى" مراحل استنباط العلل من النصوص ، وهذه المراحل لا يستطيع المسلم العادي أن يصلها ، وإنما هي موجه للمجتهدين ، وذلك لكون لديهم ملكة علمية عالية ؛ ولكونهم يمتلكون أدوات للنظر الاجتهادي .
وقد حصرها الإمام بخمسة نواحي ؛ الأول : فهمُ أقوالها ، واستفادة مدلولات تلك الأقوال ، بحسب الاستعمال اللغوي وقد سبق ذكرها .
ويقول الإمام عن ضرورة معرفة تاريخ العرب لبيان النص بقوله : ( ... وكان لمعرفة أحوال العرب وسيرة النبي (r) أثر عظيم في فهم حقائق الشريعة ...)([42]).
فمن خلال قاعدة فهم النص حسب الاستعمال العربي يتبين لنا : أن النص التشريعي لكي يفهم مقصوده ، لابد من الرجوع إلى السياق العرفي الذي ورد من أجله الحكم ، فهو أفضل وسيلة لتحديد العلة المقصودة من تشريع الحكم .
وتأييداً للوجه الذي ذكره الإمام ، لا بد من ذكر أن الإمام عالم بالعربية ، وعالم بأساليب العرب وقد خطت يداه آثاراً كثيرة في هذا السياق ، من ذلك فقد كتب مقالة في حصر وتحديد طريقة شعراء العرب في توجيه الخطاب للمرأة وقد حصرها بخمسة أغراض ([43]).
إذ أن هذا الأمر ليوحي إلى البعد الفكري الذي يمتلكه الإمام ، إذ كانت له استقراءات لطريقة الشعراء الجاهليين في توجيه الخطابات للمرأة ، فإذا كان كذلك ، وهو كذلك ، فالإمام له دراية بتاريخ العرب وأساليب العرب ومعهود الخطاب في ذلك العصر .
فالإمام له دراية بمعهود الخطاب التشريعي كذلك ، فمعهود الخطاب زمن الرسالة يعرف الإمام أبعاده وأغراضه ، كيف كان يتُلَقى ، وكيف كان يتنزل على حقائق الأشياء لما كان القرآن يتنزل على سيدنا محمد (r) ؛ لأن الشارع كان يصف ظواهر ويحكم عليها ، فهذه الظواهر ماهي ؟ فلا بد اذاً من معرفة تاريخ العرب .
اذاً لابد من النظر إلى الأحكام على أساس دقيق ، ومعرفة عوائد الأمم والشعوب على سبيل العموم ، وعلى سبيل الخصوص بالنظر إلى الواقعة في الأفراد من حيث انطباقها عليه أم لا... .
ثانياً : قاعدة السياق العرفي :
بما أن الإمام ابن عاشور استند في بيان النص على عرف كان سائد لدى ضعيفات الحصانة ، فلا بد من بيان العرف العملي ، وما يرتبط به .
الأول : العرف العملي الخاص : يقول الإمام ابن عاشور : (غلبة صدور فعل دون غيره من جنسه من شخص حتى يظن أن لفظه إذا اطلق لا ينصرف إلا لما غلب عليه فعله ؛ لأنه الذي يخطر له عند الذهن ، وإذا حمل اللفظ عليها كان تخصيصاً لا محالة ...)([44])
فالنص الوارد بلعن النامصات ... عرف عملي كان سائداً في ذلك الزمن ، فلا يحمل اللفظ إلا على هذا المفهوم لغلبة هذه الأفعال لتلك البواعث ولتلك الأجناس من النساء، فإذا لم تتصف النساء ضعيفات الحصانة بهذه العلامات في الوقت المعاصر فإن تنزيل النص على محله يعتبر خطأ في الاجتهاد التنزيلي .
الثاني : بيان ما يرتبط بالألفاظ العرفية : إن الإمام ابن عاشور بين أن النهي ليس مرتبطاً بهذه الأوصاف وإنما بالباعث عليها وهي الأفعال ، لذلك يقول الإمام القرافي في الفرق الثامن والعشرين : (فإن التحريم والتحليل إنَّما تحسن إضافتهما لغة للأفعال دون الأعيان فذات الميتة لا يمكن العرفي أن يقول هي حرام بما هي ذات ، بل فعل يتعلق بها ، وهو المناسب لها كالأكل للميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للإمهات ، ومن ذكر معهن ومن هذا الباب قوله عليه السلام : " ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " . والأعراض والأموال لا تحرم ، بل أفعال تضاف إليها فيكون التقدير ألا وإن سفك دمائكم وأكل أموالكم وثلب أعراضكم عليكم حرام .
وعلى هذا المنوال جميع ما يرد من الأحكام كان أصله أن يضاف إلى الأفعال ويركب معها فإذا ركب مع الذات في العرف وما بقي يستعمل في العرف إلا مع الذوات ، فصار هذا التركيب الخاص وهو تركيب الحكم مع الذوات موضوعاً في العرف للتغيير به عن تحريم الأفعال المضافة لتلك الذوات ، وليس كل الأفعال ، بل فعل خاص مناسب لتلك الذوات كما تقدم تفصيله ، وتحصيله )([45]).
فالإمام ابن عاشور لم يخطئ حين بين بأن النهي مرتبط بالأفعال وليس بالأعيان ، لذلك يقول الإمام ابن عاشور : ( وتتعلق التحريم بأسماء الذوات يحمل على تحريم ما يقصد من تلك الذات غالباً ، فنح : (حرمت عليكم الميتة) الخ معناه حرم أكلها ، ونحو : حرم الله الخمر ، أي: شربها وفي : (حرمت عليكم امهاتكم) معناه: تزوجهن ) ([46])
ويقول : ( إضافة الحكم إلى الأعيان على إرادة أشهرها أحوالاً ... ) ([47])
والمقصد من هذا كله : بيان أن أولى الخطوات لمعرفة مقاصد الشارع واستخراجها من نصوصه – أي :استنباطه مصلحيا – هي معرفة مقاصده من خطابه الشرعي ، من ألفاظه ، وعباراته ، وأساليبه التعبيرية ، فهذا هو المستوى الأول من معرفة المقاصد .
ولمعرفة هذا المستوى يقتضي تدبراً عميقاً للنصوص الشرعية ، والبحث في مقامات الأحوال والسياقات المعينة على تعيين المراد من مقاصد النصوص ، وعدم الاكتفاء بالنظر الظاهر لألفاظ الشارع ، وخاصة حينما يشير معناها الظاهري تناقضاً واستثكالاً .
ونحن ننظر في الساحة نجد أن الكثير ممن لا يُحسنون فهم النص ، وذلك لعدم امتلاكهم الأدوات المعينة على فهم النص ، يقعون في فهم خاطئ للنص ، ويصفون كثير من النساء باللعن والطرد من رحمة الله تعالى ، وذلك لعدم فهمهم بأن النص جاء لعلاج ظاهرة عُرفية في زمن التشريع ، ولا يصح حمل العرف على أناس اختلفت اعرافهم ؛ لأن في ذلك حرج شديد وتضييق واسع للمباح .
فالعرف كما هو معلوم عند المتخصصين في ـ علم أصول الفقه ـ بأنه لا يطرد إلا إذا كان أهل البلد يعتبرونه بينهم ، ولا بد أن يكون عاماً لجميع الناس .
لذلك نجد الإمام القرافي يقول : (... إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد([48]) يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة ، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد ، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد )([49]) .
وقال الإمام القرافي في الفرق الثامن والعشرين : (وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام ، فمهما تجدد في العرف اعتبره ، ومهما سقط أسقطه ، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك ... والجمود على المنقولات([50]) أبداً ظلال في الدين ، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ...)([51]) .
ويقول سيدي الإمام عبد الله بن الشيخ المحفوظ ابن بيه عن دور العرف في تفسير الألفاظ ( ويدخل العرف في مدلولات الألفاظ)([52]).
ويقول : ( ... أن العرف قد يكون أساساً لتغير الفتوى ... بل إنه يخالف ظاهر النص بسبب اختلاف العرف الذي كان قائماً عليه )([53]) .
بقيت قاعدة التعليل : فالنص علل الحكم بأنه تغيير لخلق الله ، وكما هو معلوم بأن الأحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً ، فإذا كان العرف لم يعد مطرداً فهل علة تغيير خلق الله الذي انيط بها الحكم مطردة أم قاصرة .
قبل بيان رأي الإمام ابن عاشور في ذلك ، لا بد من بيان معنى التغيير كمصطلح منفرداً ، قبل بيانه مع ضميمته([54]) ، باعتباره تغييراً لخلق الله ، وهل يصدق تغيير خلق الله على هذه الأفعال أم لا ؟.
يقول الراغب الأصفهاني : ( والتغيير يقال على وجهين : أحدهما : لتغيير صورة الشيء دون ذاته ، يقال غيرت داري إذا بنيتها بناءً غير الذي كان . والثاني : لتبديله بغيره ، نحو غيرت غنمي ودابتي إذا بدلتهما بغيرهما ، نحو : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )([55]) ([56]) .
فالتغيير الذي ورد في الحديث يحتمل أن يكون من النوع الأول ؛ لأن التغيير من خلال النمص والتفليج ... ليس تبديلاً للشي في مادته([57]) كما يعبر المناطقة ، وإنما في صورته .
فهل تغيير صورة الشيء يستوجب اللعن ، وهل هو حقيقة تغيير لخلق الله ، وأفضل من يجيب عن ذلك الإمام ابن عاشور بقوله : ( ...ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له ، وذلك من الضلالات الخرافية ، كجعل الكواكب آلهة ، وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس ، ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام ، الذي هو دين الفطرة ، والفطرة خلق الله ؛ فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله([58]) .
وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن ؛ فإن الختان من تغيير خلق الله ولكنّه لفوائد صحية ، وكذلك حلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار ، وتقليم ُ الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي ، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزين .
وأما ما ورد في السنة من لعن الواصلات والمتنمصات والمتفلجات للحسن فمما أشكل تأويله .
وأحسب تأويله : أن الغرض منه النهي عن سمات كانت تُعد من سمات العواهر في ذلك العهد ، أو من سمات المشركات ، وإلا فلو فرضنا هذه منهياً عنها ، لما بلغ النهي إلى حد لعن فاعلات ذلك .
وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنما يكون إثماً إذا كان فيه حظ من طاعة الشيطان ، بأن يجعل علامة لنحلة شيطانية ، كما هو سياق الآية واتصال الحديث بها ...) ([59]) .
فتغيير خلق الله الذي انيط به الحكم هو التغيير المرتبط بنحلة شيطانية تدعوا اصحابها لارتكاب المعاصي ونشرها ، حتى تصبح علامات تعرفهم بها ، أما إذا لم يكن القصد من التغيير ارتباطها بنحلة شيطانية فلا اثم فيها . والله تعالى أعلم .
إضافة إلى ذلك : فهناك وجه آخر يمكن لنا أن نستنجد به لكي يرفع الالتباس ؛ هو معرفة مرتبة هذه المسألة من خلال كليات الشريعة ومقاصدها ، وقد أشار إليه الإمام ابن عاشور ، وذلك لأن المعهود في تصرفات الشريعة أنها لا تصف الأمور الصغيرة بعظيم الذنوب إلا إذا كان ذلك الأمر يستوجب ذلك ، فلا يعقل أن تكون تلك الأفعال تستوجب اللعن من رحمة الله تعالى ؛ إذ هي ليست من الضروريات الخمس ؛ وليست من الحاجيات إذ نجد ان الإمام عبد الله بن بيه يجعل لبس الحجاب من الحاجيات([60]) ، فلا يعقل أن يكون نمص شعرات من الحاجب من الحاجيات وتغطية الرأس من الحاجيات ، فلم يبقى إلا أنها من التحسينيات ؛ وترقى للحاجيات إذا كان ورائها دوافع شيطانية .
والتغيير كعلة فهي مطردة ، وليست متعلقة بالأعيان السابقة ، وإنما مرتبطة بالوصف الذي ذكره الامام ابن عاشور : هو ارتباط التغيير بحظ من الشيطان .
وممن أيد الإمام برأيه الشيخ محمود شمّام في تراجمه بقوله : ( فالشيخ ابن عاشور يفتي هنا بحلية لبس الباروكة وما شابهها، وتزجيج الحواجب ، وتكحيل العيون ، تفهما لمعنى الأثر والمورد الذي ورد فيه ، ولأن هذه الأمور يقصد بها الآن الزينة لا تغيير خلق الله ولا تبديله ، وما ورد من نهي على فرض صحته وصحة سنده ، فالمقصود به نساء في ذلك العصر اتصفن برقّة في العفاف وضعف في الدين وسوء سيرة ، ولا يشمل كافة النساء ولا كافة العصور ... وهكذا انحل هذا المشكل الذي تعثرت الأقلام في تفسيره ، وعجزت الأفكار عن حله ، حتّى أفتى به بالرأي السّديد والفهم الرشيد أستاذنا الجليل رحمه الله )([61]) .
والمعلوم عند كل الفقهاء ـ تقريباً ـ أن فعل هذه الأشياء : توصيل الشعر ، أو لبس (الباروكة) ، وطلب إيصاله ، والوشام وطلبه ، وتفليج الأسنان ، وتزجيج الحاجبين ، كلها حرام تحريماً مغلظاً ، وقوفاً عند ظاهر هذا النص .
ولكن الفكر المتفتح المقنع بصلاحية الإسلام لكل الأزمنة والأمكنة يحار حيرة عظيمة ، ويستشكل هذا الأمر استشكالاً ، لا يدفعه إلا النظرة التعبدية ، ولكن الشيخ ابن عاشور ـ رحمه الله ـ الذي يؤمن بأن أحكام الشريعة في غير العبادات معقولة المعنى ، والذي استبطن أعماق النصوص ، واستنطق مقاصد الشريعة ، وربط بين النصوص وبين ملابساتها من عوائد الناس ، وأسباب ورود النص ، اهتدى إلى هذا الحل الذي يزيل الإشكال ، ويدفع الحيرة عن عقل المسلم الذي يرى أن من حق المرأة أن تتزين وتتحسن لزوجها ، لما في ذلك من حصانة له ولها ، ويقع في ارتباك عظيم حينما يصطدم بهذا النص المحجر لأنواع من الزينة على المرأة المسلمة ، في حين أنه أباح لها نظائرها من أنواع التزين كالتحمير والسواك والخلوق وسائر الحلي .
وحينما يجد في ملابسات النص أن تلك الأفعال كانت من أمارات البغايا ، يعلم أن الشارع لعنهن ، لا لمجرد التزين بتلك الأصناف من الزينة ، وإنما لعنهن لأجل ما كن يهدفن إليه من ذلك الفعل ، الذي ظاهره التزين ، وباطنه العهر والفجور والإثارة للغرائز الجنسية عند الرجل .
فهذا النهي وارد كناية عن المسبب وهو التبرج والعهر ، لا عن السبب الذي هو في أصل جنسه مباح ([62]) .
وأخيراً : فالدرس المقاصدي هو إحدى الأدوات المعرفية لتقليل الخلاف بين العلماء ، فلا بد من توظيف الدرس المقاصدي في كل جوانب الاختلاف ، والاعتماد عليه باعتباره اصلا كليا .










الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/t19218.html#ixzz347n8741T

Viewing all articles
Browse latest Browse all 15662

Trending Articles