المعتمد
ليس المقصود هنا إنشاء رسالة في المعتمد ما هو وتاريخ نشوئه ووو ... بل مجرد مناقشة لدعوتين رئيستين ، أولاهما أن المعتمد هو ما اختاره الشيخان ، أو أحدهما حيث سكت الآخر وإن خالفهما من تقدم ومن تأخر عنهما ما دام المتأخرون عنهما ليسوا مجمعين على تلك المخالفة.
والثانية : أن المعتمد عند المتأخرين هو ما اختاره الإمام ابن حجر والرملي أو أحدهما حيث لم يتكلم الآخر أو اعتماد أناس مخصوصين كالشيخ زكريا الأنصاري وتلامذته والمحشين عليهم، بالترتيبات المذكورة والآتي بعضها.
الرافعي والنووي :
جمعهما لنصوص وأوجه المسائل أصولاً وفروعاً ، وترجيحهما :
أما الأول : فاعلم أنه لا خلاف في كون الإمامين الرافعي والنووي قد جمعا واطلعا على كم من الكتب لعلها لم تجتمع لمن كان قبلهما ، وبحكم تأخرهما فقد حازا من أقوال أصحاب الوجوه ما لم يجتمع لأصحاب الوجوه أنفسهم.
لكن المذهب بشكل رئيسي هو اختيارات الإمام الشافعي رحمه الله والقواعد التي سار عليها.
وهنا يطرأ سؤال : بما أن الرافعي والنووي رحمهما الله تأخرا عن الشافعي واطلعا على أقواله وأقوال من جاء بعده من الأئمة المجتهدين وأصحاب الوجوه ، فهل يصيران بذلك أعلم من إمام المذهب نفسه ، وقولهما أرجح من قوله، حتى أنه لو ظهر هناك تعارض بين قولهما وقوله فالمذهب هو قولهما؟
ثم ينسحب هذا السؤال على أصحاب الشافعي ومن جاء بعدهم من أصحاب الوجوه ، وهم الذي يرجحون بين أقواله المختلفة والذين يحكمون في المسائل المسكوت عنها تخريجاً على نظائرها وعلى القواعد التي اعتمده الشافعي في الاستنباط والتوفيق بين المختلفات وغير ذلك.
فهل يحكم للرافعي والنووي بأنهما أعلم من أولئك وأن تخريجاتهم أقوى من تخريجات أولئك وأنهما المعتمدان دونهم؟
ولا أعلم خلافاً في كون الشيخين لا يبلغان رتبة من تقدم ذكرهم في المذهب ؛ لذلك لا تعد أقوالهم وجوهاً في المذهب ، ولو كان في المسألة قول أو وجه وكان للرافعي أو النووي ترجيح مخالف ، فلا خلاف أن المذهب هو قول المتقدم دونهما.
ومع ذلك فإنهما قد بلغا من سعة الإطلاع والمعرفة بأقوال الإمام الشافعي وأصحابه وأصحاب الوجوه ما لا يكاد يجتمع لأحد تقدم عليهما.
وقد صرح النووي في مقدمته على (الروضة) بقوله : "فوفق الله سبحانه وتعالى - وله الحمد - من متأخري أصحابنا من جمع هذه الطرق المختلفات، ونقح المذهب أحسن تنقيح، وجمع منتشره بعبارات وجيزات، وحوى جميع ما وقع له من الكتب المشهورات، وهو الإمام الجليل المبرز المتضلع من علم المذهب أبو القاسم الرافعي ذو التحقيقات، فأتى في كتابه (شرح الوجيز) بما لا كبير مزيد عليه من الاستيعاب مع الإيجاز والإتقان وإيضاح العبارات"
فتصريحه بأنه لا كبير مزيد عليه مصرح بأنه لم يفته في كتابه هذا إلا القليل ، ألا تراه يمكن استيفاء هذا القليل من باقي مصنفاته كالمحرر والشرح الصغير والتذنيب شرح مسند الشافعي وغيرها ؟
ثم قال رحمه الله : "فألهمني الله سبحانه - وله الحمد - أن أختصره في قليل من المجلدات، فشرعت فيه قاصدا تسهيل الطريق إلى الانتفاع به لأولي الرغبات، أسلك فيه - إن شاء الله - طريقة متوسطة بين المبالغة في الاختصار والإيضاح فإنها من المطلوبات، وأحذف الأدلة في معظمه وأشير إلى الخفي منها إشارات، وأستوعب جميع فقه الكتاب حتى الوجوه الغربية المنكرات، وأقتصر على الأحكام دون المؤاخذات اللفظيات، وأضم إليه في أكثر المواطن تفريعات وتتمات، وأذكر مواضع يسيرة على الإمام الرافعي فيها استدراكات، منبها على ذلك - قائلا في أوله: قلت: وفي آخره: والله أعلم - في جميع الحالات. وألتزم ترتيب الكتاب - إلا نادرا - لغرض من المقاصد الصالحات، وأرجو - إن تم هذا الكتاب - أن من حصله أحاط بالمذهب وحصل له أكمل الوثوق به وأدرك حكم جميع ما يحتاج إليه من المسائل الواقعات"
فإذا كان الأصل بتصريح النووي مستوعباً للمذهب إلا قليل ، فكيف صار الأمر بعد استدراكات وتتمات النووي في (الروضة)؟
فكيف إذا ضممنا إليها سائر مصنفات النووي كالمجموع وشرح مسلم والمنهاج والفتاوى وغيرها؟
والمذهب نقل ، ولا يكاد يفوتهما من النقل شيء.
فالغالب إذاً أن ما لم يوجد في مصنفاتهما ليس مذهباً ، لأنه لو كان نصاً أو وجهاً لرأيته إما منقولاً أو معمولاً بمقتضاه عندهما.
من بعد الشيخين :
من أجل ما تقدم اهتم عامة من جاء بعدهما بمصنفاتهما لأنهما سهلا ما كان يعسر لولاهما ، فبدلاً من أن يضيع المتفقه عمره في البحث عن نوادر المصنفات في المذهب للاطلاع على الأقوال والأوجه وما احتج به كل واحد، فإنه يمكنه أن يحصيل ذلك بالإطلاع على كتبهما لاحتوائهما على جميع ذلك.
وبدلاً من تضييع سنين طويلة في تطلب الترجيح بالبحث عن وجوهه وقواعده في كتب الشافعي وكتب علماء المذهب ، مما سيضطره إلى تضييع زمن طويل في تطلبها من نوادر الكتب كما قدمناه ، فيكفيه أن ينظر في ترجيحات الرافعي والنووي ؛ لأنهما باطلاعهما على تلك الكتب فقد اطلعاً على وجوه الترجيح والتصحيح في المسائل لاطلاعهما على تلك الكتب.
ومن هنا كان جل اهتمام المتأخرين عن الشيخين هو الغوص في كتبهما وتحصيل ما فيها ، وكل ما كان الرجل بها أدرى وفيها أمكن ، كان بالمذهب أعرف.
ولما تتابع الأمر على ذلك ، وكان المبتدئون في الطلب يرون مشائخهم مكبين على كتب الشيخين .. ارتفعت مكانة كتب الشيخ في صدورهم ، وتربعت مكانة لم يلحق بها غيرها .
التعقب على الشيخين :
لكن بقي أمر ؛ وهو أن من علماء المذهب من كان اطلع على كتب الشيخين وألم بما فيها الإلمام التام ، فلم يرَ بعد بلوغه هذه الرتبة الإقتصار في تحصيله العلم على تكرير النظر فيها ، وانتقل إلى البحث عن أصولها وعما يمكن أن يكون فاتهم من الأصول ، وهؤلاء كالإمام ابن الرفعة والإسنوي مثلاً.
فظهر لهم بالتتبع والنقل أن بعض المسائل ـ وإن قلت ـ لم تنقل على وجهها في كتب الشيخين أو احدهما ، كما ظهرت لهم مسائل لم تبلغ الشيخين أصلاً فحكم بها الشيخان بمقتضى البحث الفقهي عندهما وهي منقولة عن أصحاب الوجوه ، بل ربما عن إمام المذهب نفسه، لكن النقل قد يكون في غير مظنته ، أو في كتاب لم يشتهر أو ظُنّ مفقوداً ، وربما كان ظاهراً موجوداً في مظنته لكن حصلت الغفلة عنه ذهولاً كما هو عادة البشر.
فإن الرجل قد يطلع على نص من الطريق المشهورة المعلومة في كتاب مشهور ، ثم يجزم بإنكاره ، كما وقع هذا للعماد ابن كثير رحمه الله حين تعقب ابن الصلاح في نقله تعريف الحسن عن الترمذي ، فأنكر أن الترمذي ذكره جازماً بذلك ، فتعقبه الحافظ العراقي بأنه في العلل لسنن الترمذي المقروء لابن كثير نفسه.
لكن تقدم معك أن كتب الشيخين كانتَ قد اكتسبت مكانة عليا في صدور أصحاب المذهب ومارسوها وكرروا النظر فيها ، وعملوا عليها أعمالاً شروحاً ومختصرات وحواشي وأنظام وغير ذلك. فإذا تفرد رجل بتعقبٍ عليهما ، استبعدت النفوس صوابه ، إذ كيف فاتهما ذلك مع ما قدمناه فيهما ، ولو فات ، فكيف فات علماء المذهب من بعدهما حتى جاء هذا الواحد فاستدركه؟
لكن لم يكن الأمر دوماً كذلك ، فربما اجتمع المتأخرون ، على ندور ، على أن ما قالاه خطأ ، فحينئذٍ كان يقبل النقد.
لكن بين انفراد واحدٍ بتعقيب واجتماع الكل عليه مراتب كثيرة ، اختلفوا فيها فمن قابل ومن راد.
الحكم في ما خولفا فيه :
استمر الأمر كما تقدم ، وكانت التعقبات على قلتها تزيد كلما جاء متعقب، والقائلون بها ابتداءً أو اتباعاً في ازدياد أيضاً.
وكان من أبرز المتعقبين الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي ، فإنه كان يذكر في مصنفاته ما وقع لهم مما يعتقده هو خطأً ، ثم أفرد ذلك بتصنيفين :
أولهما : (جواهر البحرين في تناقض الحبرين) جمع فيها ما خالف كل واحدٍ منهما نفسه ، ولم يشترط امتناع الجمع ، بل كل ما كان ظاهره التناقض وكان في الجواب عنه تكلف ، وإن أمكن ، فهو داخل في تصنيفه. وقد اطلعنا على (مختصر الأزرق) وتوجد رسالة جامعية له غير تامة اطلعت عليها أيضاً.
والثاني : (المهمات) وهذا الكتاب أشهر كتبه على الإطلاق ، تناول فيه أهم كتب الرافعي ، وهو (العزيز شرح الوجيز) وأهم مصنفات النووي وهو (الروضة) بالنقد، وعلى هذين الكتابين معول أصحاب المذهب ، وموقعهما في النفس جليل ، وما كان ليسكت عنه أئمة أصحاب الترجيح بيسر ، وما كان ليقابله من نزل عن هذه المرتبة إلا بالنُّكر.
واستمرت الإعتراضات بالإنتشار والظهور ، حتى جاء الإمام ابن حجر الهيتمي ، فبدأ عصرٌ جديد ـ فيما يتعلق بالشيخين خاصة ـ حيث قرر أن قولهما أو أحدهما أو النووي أو الرافعي حيث لم يكن للنووي كلام هو الصواب الواجب اعتماده ، ولا عبرة بالمخالف مطلقاً إلا أن يجتمع جميع المتأخرين عليه ، وادعى على ذلك الإجماع ، قاله في مقدمته على (الإيعاب) وعبارته رحمه الله "قد أجمع المحققون على أن المفتى به ما ذكراه ، فالنووي ، وعلى أنه لا يُغتر بمن يعترض عليهما بنص الأم ، أو كلام الأكثرين ، أو نحو ذلك ، لأنهما أعلم بالنصوص وكلام الأصحاب من المعترض عليهما ، فلم يخالفاه إلا لموجب علمه من علمه ، وجهله من جهله" انتهى من راجع مقدمة (العباب) ط دار المنهاج و(الفوائد المدنية) للكردي ص 40 ـ 41 ، لكن في الفوائد بعض تحريف.
ثم أيد دعواه الأعلمية بنصوص الشافعي بقوله : "ومما يدلك على ذلك أنهما صرحا بكراهة ارتفاع المأموم على الإمام ، وعمما ذلك ، لم يقيداه بمسجد ولا غيره ؛ فجاء بعض المتأخرين واعترضَ عليهما بأنه نص في (الأم) على أن محل كراهة ذلك في غير [ذلك] ، وتبعه كثيرون ، وملتُ إلى موافقتهم زمناً طويلاً ، حتى رأيتُ للشافعي نصاً آخر ، فإنه كره صلاة الإمام داخل الكعبة والمأموم خارجها ، وعلله بعلوه عليه ؛ فانظر كيف علما أن له نصين أخذا بأحدهما لموافقته من أن ارتفاع أحدهما على الآخر مخل بتمام المتابعة المطلوبة بين الإمام والمأموم ، وتركا النص الآخر لمخالفته للقياس المذكور لا عبثاً ، إذ مزيد ورعهما وشدة تحريهما في الدين قاضٍ بذلك ، ولو أمعن تفتيش كتب الشافعي والأصحاب ، لظهر أنهما لم يخالفا نصاً إلا لما هو أرجح منه" انتهى من (الفوائد المدنية) ص 41.
وقد بحثت عن صاحب الإعتراض في المكتبة الشاملة و(النجم الوهاج) و(البداية) لابن قاضي شهبة فلم أظفر بشيء .
بدا لي أن أتحقق المسألة المنقولة ، قبل ذكر هذه الملاحظات ، فبحثت عن المسألة ، وأصلها هو قول النووي رحمه الله في (المنهاج) : "يكره ارتفاع المأموم على إمامه وعكسه إلا لحاجة .. فيستحب"
وبحثتُ ثم عن المقصود بالمعترض المذكور ، وهو : 1. اعترض على الشيخين إطلاق الكراهة في المسجد وغيره. 2. صوب في المسألة الكراهة في المسجد. 3. اعتمد في اعتراضه على نص الشافعي .
وقول ابن حجر : "وتبعه كثيرون" ظاهره أن المسألة مشهورة ، فبحثت عنها أولاً في كتبِ ابن حجر والشيخ زكريا والرملي والمحشين، وعامة الكتب في (المكتبة الشاملة) ، فلم بأظفر بأكثر مما ذكره ابن حجر في النص المتقدم ، ولم أدرِ من هو هذا المعترض على الشيخين.
وقد كنتُ أقدر في أول الأمر أن المخالف هو الإسنوي رحمه الله ، فإنه كثير الإعتراض عليهما بنصوص الشافعي رحمه الله ، لكني لم أظفر له بخلاف في المسألة .
ثم رأيتُ في (فتاوى الشهاب الرملي) سؤالاً : "هل كراهة علو المأموم على الإمام عام في المسجد وغيره كما هو ظاهر إطلاقهم أم تختص بغير المسجد كما نقل عن فتوى العلامة ابن العراقي ومن صرح بذلك؟"
فبحثتُ عن فتوى العراقي ، فإذا هي لا تتعلق بالارتفاع حال كونه في المسجد أو في غيره ، بل حال كون الارتفاع ظاهره الدلالة على التكبر ولو لم يكن مقصوداً للمستعلي. (فتاوي العراقي) ص 169. وهو المقصود بقول ابن حجر : "وَعِنْدَ ظُهُورِ تَكَبُّرٍ مِنْ الْمُرْتَفِعِ وَعَدَمِهِ خِلَافًا لِمَنْ نَظَرَ لِذَلِكَ" (التحفة) .
كما أن العراقي لم يعترض بكلام الشافعي ، بل لم يعترض عليهما أصلاً.
فقلتُ : عساه تكلم فيه في (تحرير الفتاوى) فبحثت فإذا هو لم يتعقبهما بشيء في خصوص المسألة ، ولكن ذكر أن التعبير بعدم الإستحباب أولى ، وهو قريب من الإعتراض من حيث هو منكرٌ للكراهة فإنه قال بعد ذكر عبارة (التنبيه ) : "لا يزم منه أن يكون ارتفاعه مكروهاً ، وصرح في (المنهاج) بالكراهة ... وعبارة (التنبيه) موافقة لنص الشافعي" انتهى.
لكنه رحمه الله لم يفصل بين كون الكراهة في المسجد أو خارجه بل أطلق أن التعبير بعدم الإستحباب أولى.
فبحثتُ في الكتب الموجودة في الشاملة ، وفي (النجم الوهاج) للدميري ، و(البداية) لابن قاضي شهبة ، و(حاشية الشوبري على المنهج) وغيرها ثم مللتُ فتوقفتُ عن البحث.
فإن قيل : وما حاجتك وقد نقله ابن حجر وإن لم يصرح بقائله وهو ثقة مقبول النقل؟
قلتُ : إنما بحثتُ لأتأكد أنه ليس ثم احتمال وهم وخطأ في نقل المسألة ، فإنه قد يقرأ عبارة كعبارة السراج البلقيني : "ولا يشترط في السهل والجبل محاذاة الأسفل لأعلى جزءٍ، وإنما ذاك في البناء غير المسجد" (تدريب المبتدي) ، فيرى التفرقة بين بناء المسجد والبناء غير المسجد ، فينقل الذهن إلى المسألة السابقة ويخطئه ، بينما هو يتكلم في مسألة أخرى. وهذا ليس بالقليل النادر.
كما أردتُ أن أعرف من هو المعترض ، ومرتبته في العلم بالنسبة إلى غيره من المحققين الذين ربما اعترضوا على الشيخين.
ونعود إلى كلام ابن حجر ، فنقول : قوله ""قد أجمع المحققون على أن المفتى به ما ذكراه ، فالنووي ، وعلى أنه لا يُغتر بمن يعترض عليهما بنص الأم ، أو كلام الأكثرين ..."
هذا كلام ينقض آخره أوله ، حيث ابتدأ بذكر إجماع المحققين على اعتماد قولهما ، ثم أثبت وجود المعترض عليهما ومقتضاه أنه حيث اعترض لم يعتمد قولهما.
فإن قيل : إنما نقل إجماع المحققين.
قلنا : فهل تزعمون أن ابن الرفعة والإسنوي والنشائي والسبكي والبلقيني والولي العراقي والأذرعي والحصني ليسوا من المحققين؟ وكل هؤلاء اعترض مسائل قال بها النووي ولم يجتمع المتأخرين على صحة الاعتراض.
بل من المعترضين بعض شيوخ ابن حجر ، بل ابن حجر نفسه كما في تيمم من لم يجد طبيباً بالشرط ، فقال بالتيمم تبعاً للبغوي ، وخلافاً للنووي ، وهي مسألة لم يجتمع على المتأخرون ، لذا قال الشربيني والرملي بأنه لا يتيمم موافقة للنووي.
فأي إجماع هذا الذي لا نحفظ به قائلاً عاملا.
ومجرد أن يقول أحد المحققين أن تحقيقاتهما معتمدة معتبرة صحيحة ، لا يفيد أنه لا يعترض عليهما قط ، فإن ممن ذكر ذلك الإسنوي نفسه ، وأين ذكره ؟ في مقدمة كتابه (المهمات) !
فلا يفهم من إطلاق هذه العبارات ونحوها تأييداً لدعوى الإجماع المتقدمة.
أما المسألة المذكورة ، على فرض صحتها ، فلا نسلم إفادتها المدعى ، وهو أنهما أعلم بنصوص الشافعي من غيرهما ، كيف وقد بين الإسنوي أن الرافعي إنما كان ينقل عن بعض كتب الشافعي بواسطة الإمام الجويني ، وأنه لم يقف عليها بنفسه ، وسمى ما اطلعا عليه ، وسمى هو من الكتب التي لم يطلعا عليها (الإملاء) و(الأمالي) و(غاية الإختصار) ، كما سمى من كتب أصحاب الوجوه وغيرهم مما لم يطلعا عليه جملة وافرة.
وهو أتقى لله وأورع من أن يتخرص عليهما ذلك ، ويقدر الجهل فيهم تقديراً من رأسه ، بل بناه على تصريحهما أحياناً وعلى الأصل المعتضد بالمخالفة أحياناً أخرى ، والنقل عن غيره أحياناً.
أما الأول : فكأن يقول النووي أو الرافعي : لا أعرف فيها نقلاً عن الأصحاب ، ثم يستدركه الإسنوي عن النص الشافعي نفسه ، أو نصه بعض أصحابه وأصحاب الوجوه.
أو أن يحكم الشيخان أو أحدهما حكماً باعتماد البحث الفقهي ، وهي منقولة عن إمام المذهب أو بعض أصحابه وأصحاب الوجوه.
أو أن يحكما حكماً مخالفاً لنص الإمام من غير بيان مستند نقلي ، فيعترض عليهما المعترض بثبوت النقل ، وهو ما رده ابن حجر بأنهما أعلم بنصوص الشافعي ، وأنهما قد يكونان اطلعا عليه وعلى نص آخر للشافعي لم يطلع عليه المعترض .
وقال : "لا يقال أنهما لم يروه؟ لأن ذلك ترجٍّ لا يفيد ، على أنه شهادة نفي. بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها ، وصرفوها عن ظاهرها بالدليل"
وهذا كلام غير مقبول ، بل الأصل عدم الإطلاع ، وهو متأيد بالمخالفة له ، ودعوى الإطلاع لو سلمنا ظهوره ـ ولا نسلمه ـ معارض للأصل المتعضد وهو خلو عن قرينة تؤيده ، سوى ما يكرره من فضلهما وسعة اطلاعهما ، وهو ما يقر به نفس المعترض عليهما الراد لقولهما ، ولا يفيد ، فإن سعة الإطلاع الجملي مسلم فيهما ، أما التفصيلي على قول قول في مسألة مسألة ، فإن هذا لا يقبل لمجرد ثبوت الإطلاع الجملي ، ولا يكفي فيه التغني بفضائلهما رحمهما الله.
وعلى كل حال لو سلمنا له الإستدلال فلا ينفعه حيث صرحا بأن لا علم لهما بنقل سابق ، أو صرحا بما يفيده ، كأن ينقلا إجماع الأصحاب على قول مع أن الخلاف موجود ، وبخاصة إن كان الخلاف عن إمام المذهب ، أو يصرحا بأن القول الفلان لم ينقله سوى فلان ، فيتعقب عليهما بأنه نقله أيضاً فلان وفلان من الناس.
وهذا في كلام المتعقبين كثير ، وقد قدمنا له أمثلة.
... يتبع ...
ليس المقصود هنا إنشاء رسالة في المعتمد ما هو وتاريخ نشوئه ووو ... بل مجرد مناقشة لدعوتين رئيستين ، أولاهما أن المعتمد هو ما اختاره الشيخان ، أو أحدهما حيث سكت الآخر وإن خالفهما من تقدم ومن تأخر عنهما ما دام المتأخرون عنهما ليسوا مجمعين على تلك المخالفة.
والثانية : أن المعتمد عند المتأخرين هو ما اختاره الإمام ابن حجر والرملي أو أحدهما حيث لم يتكلم الآخر أو اعتماد أناس مخصوصين كالشيخ زكريا الأنصاري وتلامذته والمحشين عليهم، بالترتيبات المذكورة والآتي بعضها.
الرافعي والنووي :
جمعهما لنصوص وأوجه المسائل أصولاً وفروعاً ، وترجيحهما :
أما الأول : فاعلم أنه لا خلاف في كون الإمامين الرافعي والنووي قد جمعا واطلعا على كم من الكتب لعلها لم تجتمع لمن كان قبلهما ، وبحكم تأخرهما فقد حازا من أقوال أصحاب الوجوه ما لم يجتمع لأصحاب الوجوه أنفسهم.
لكن المذهب بشكل رئيسي هو اختيارات الإمام الشافعي رحمه الله والقواعد التي سار عليها.
وهنا يطرأ سؤال : بما أن الرافعي والنووي رحمهما الله تأخرا عن الشافعي واطلعا على أقواله وأقوال من جاء بعده من الأئمة المجتهدين وأصحاب الوجوه ، فهل يصيران بذلك أعلم من إمام المذهب نفسه ، وقولهما أرجح من قوله، حتى أنه لو ظهر هناك تعارض بين قولهما وقوله فالمذهب هو قولهما؟
ثم ينسحب هذا السؤال على أصحاب الشافعي ومن جاء بعدهم من أصحاب الوجوه ، وهم الذي يرجحون بين أقواله المختلفة والذين يحكمون في المسائل المسكوت عنها تخريجاً على نظائرها وعلى القواعد التي اعتمده الشافعي في الاستنباط والتوفيق بين المختلفات وغير ذلك.
فهل يحكم للرافعي والنووي بأنهما أعلم من أولئك وأن تخريجاتهم أقوى من تخريجات أولئك وأنهما المعتمدان دونهم؟
ولا أعلم خلافاً في كون الشيخين لا يبلغان رتبة من تقدم ذكرهم في المذهب ؛ لذلك لا تعد أقوالهم وجوهاً في المذهب ، ولو كان في المسألة قول أو وجه وكان للرافعي أو النووي ترجيح مخالف ، فلا خلاف أن المذهب هو قول المتقدم دونهما.
ومع ذلك فإنهما قد بلغا من سعة الإطلاع والمعرفة بأقوال الإمام الشافعي وأصحابه وأصحاب الوجوه ما لا يكاد يجتمع لأحد تقدم عليهما.
وقد صرح النووي في مقدمته على (الروضة) بقوله : "فوفق الله سبحانه وتعالى - وله الحمد - من متأخري أصحابنا من جمع هذه الطرق المختلفات، ونقح المذهب أحسن تنقيح، وجمع منتشره بعبارات وجيزات، وحوى جميع ما وقع له من الكتب المشهورات، وهو الإمام الجليل المبرز المتضلع من علم المذهب أبو القاسم الرافعي ذو التحقيقات، فأتى في كتابه (شرح الوجيز) بما لا كبير مزيد عليه من الاستيعاب مع الإيجاز والإتقان وإيضاح العبارات"
فتصريحه بأنه لا كبير مزيد عليه مصرح بأنه لم يفته في كتابه هذا إلا القليل ، ألا تراه يمكن استيفاء هذا القليل من باقي مصنفاته كالمحرر والشرح الصغير والتذنيب شرح مسند الشافعي وغيرها ؟
ثم قال رحمه الله : "فألهمني الله سبحانه - وله الحمد - أن أختصره في قليل من المجلدات، فشرعت فيه قاصدا تسهيل الطريق إلى الانتفاع به لأولي الرغبات، أسلك فيه - إن شاء الله - طريقة متوسطة بين المبالغة في الاختصار والإيضاح فإنها من المطلوبات، وأحذف الأدلة في معظمه وأشير إلى الخفي منها إشارات، وأستوعب جميع فقه الكتاب حتى الوجوه الغربية المنكرات، وأقتصر على الأحكام دون المؤاخذات اللفظيات، وأضم إليه في أكثر المواطن تفريعات وتتمات، وأذكر مواضع يسيرة على الإمام الرافعي فيها استدراكات، منبها على ذلك - قائلا في أوله: قلت: وفي آخره: والله أعلم - في جميع الحالات. وألتزم ترتيب الكتاب - إلا نادرا - لغرض من المقاصد الصالحات، وأرجو - إن تم هذا الكتاب - أن من حصله أحاط بالمذهب وحصل له أكمل الوثوق به وأدرك حكم جميع ما يحتاج إليه من المسائل الواقعات"
فإذا كان الأصل بتصريح النووي مستوعباً للمذهب إلا قليل ، فكيف صار الأمر بعد استدراكات وتتمات النووي في (الروضة)؟
فكيف إذا ضممنا إليها سائر مصنفات النووي كالمجموع وشرح مسلم والمنهاج والفتاوى وغيرها؟
والمذهب نقل ، ولا يكاد يفوتهما من النقل شيء.
فالغالب إذاً أن ما لم يوجد في مصنفاتهما ليس مذهباً ، لأنه لو كان نصاً أو وجهاً لرأيته إما منقولاً أو معمولاً بمقتضاه عندهما.
من بعد الشيخين :
من أجل ما تقدم اهتم عامة من جاء بعدهما بمصنفاتهما لأنهما سهلا ما كان يعسر لولاهما ، فبدلاً من أن يضيع المتفقه عمره في البحث عن نوادر المصنفات في المذهب للاطلاع على الأقوال والأوجه وما احتج به كل واحد، فإنه يمكنه أن يحصيل ذلك بالإطلاع على كتبهما لاحتوائهما على جميع ذلك.
وبدلاً من تضييع سنين طويلة في تطلب الترجيح بالبحث عن وجوهه وقواعده في كتب الشافعي وكتب علماء المذهب ، مما سيضطره إلى تضييع زمن طويل في تطلبها من نوادر الكتب كما قدمناه ، فيكفيه أن ينظر في ترجيحات الرافعي والنووي ؛ لأنهما باطلاعهما على تلك الكتب فقد اطلعاً على وجوه الترجيح والتصحيح في المسائل لاطلاعهما على تلك الكتب.
ومن هنا كان جل اهتمام المتأخرين عن الشيخين هو الغوص في كتبهما وتحصيل ما فيها ، وكل ما كان الرجل بها أدرى وفيها أمكن ، كان بالمذهب أعرف.
ولما تتابع الأمر على ذلك ، وكان المبتدئون في الطلب يرون مشائخهم مكبين على كتب الشيخين .. ارتفعت مكانة كتب الشيخ في صدورهم ، وتربعت مكانة لم يلحق بها غيرها .
التعقب على الشيخين :
لكن بقي أمر ؛ وهو أن من علماء المذهب من كان اطلع على كتب الشيخين وألم بما فيها الإلمام التام ، فلم يرَ بعد بلوغه هذه الرتبة الإقتصار في تحصيله العلم على تكرير النظر فيها ، وانتقل إلى البحث عن أصولها وعما يمكن أن يكون فاتهم من الأصول ، وهؤلاء كالإمام ابن الرفعة والإسنوي مثلاً.
فظهر لهم بالتتبع والنقل أن بعض المسائل ـ وإن قلت ـ لم تنقل على وجهها في كتب الشيخين أو احدهما ، كما ظهرت لهم مسائل لم تبلغ الشيخين أصلاً فحكم بها الشيخان بمقتضى البحث الفقهي عندهما وهي منقولة عن أصحاب الوجوه ، بل ربما عن إمام المذهب نفسه، لكن النقل قد يكون في غير مظنته ، أو في كتاب لم يشتهر أو ظُنّ مفقوداً ، وربما كان ظاهراً موجوداً في مظنته لكن حصلت الغفلة عنه ذهولاً كما هو عادة البشر.
فإن الرجل قد يطلع على نص من الطريق المشهورة المعلومة في كتاب مشهور ، ثم يجزم بإنكاره ، كما وقع هذا للعماد ابن كثير رحمه الله حين تعقب ابن الصلاح في نقله تعريف الحسن عن الترمذي ، فأنكر أن الترمذي ذكره جازماً بذلك ، فتعقبه الحافظ العراقي بأنه في العلل لسنن الترمذي المقروء لابن كثير نفسه.
لكن تقدم معك أن كتب الشيخين كانتَ قد اكتسبت مكانة عليا في صدور أصحاب المذهب ومارسوها وكرروا النظر فيها ، وعملوا عليها أعمالاً شروحاً ومختصرات وحواشي وأنظام وغير ذلك. فإذا تفرد رجل بتعقبٍ عليهما ، استبعدت النفوس صوابه ، إذ كيف فاتهما ذلك مع ما قدمناه فيهما ، ولو فات ، فكيف فات علماء المذهب من بعدهما حتى جاء هذا الواحد فاستدركه؟
لكن لم يكن الأمر دوماً كذلك ، فربما اجتمع المتأخرون ، على ندور ، على أن ما قالاه خطأ ، فحينئذٍ كان يقبل النقد.
لكن بين انفراد واحدٍ بتعقيب واجتماع الكل عليه مراتب كثيرة ، اختلفوا فيها فمن قابل ومن راد.
الحكم في ما خولفا فيه :
استمر الأمر كما تقدم ، وكانت التعقبات على قلتها تزيد كلما جاء متعقب، والقائلون بها ابتداءً أو اتباعاً في ازدياد أيضاً.
وكان من أبرز المتعقبين الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي ، فإنه كان يذكر في مصنفاته ما وقع لهم مما يعتقده هو خطأً ، ثم أفرد ذلك بتصنيفين :
أولهما : (جواهر البحرين في تناقض الحبرين) جمع فيها ما خالف كل واحدٍ منهما نفسه ، ولم يشترط امتناع الجمع ، بل كل ما كان ظاهره التناقض وكان في الجواب عنه تكلف ، وإن أمكن ، فهو داخل في تصنيفه. وقد اطلعنا على (مختصر الأزرق) وتوجد رسالة جامعية له غير تامة اطلعت عليها أيضاً.
والثاني : (المهمات) وهذا الكتاب أشهر كتبه على الإطلاق ، تناول فيه أهم كتب الرافعي ، وهو (العزيز شرح الوجيز) وأهم مصنفات النووي وهو (الروضة) بالنقد، وعلى هذين الكتابين معول أصحاب المذهب ، وموقعهما في النفس جليل ، وما كان ليسكت عنه أئمة أصحاب الترجيح بيسر ، وما كان ليقابله من نزل عن هذه المرتبة إلا بالنُّكر.
واستمرت الإعتراضات بالإنتشار والظهور ، حتى جاء الإمام ابن حجر الهيتمي ، فبدأ عصرٌ جديد ـ فيما يتعلق بالشيخين خاصة ـ حيث قرر أن قولهما أو أحدهما أو النووي أو الرافعي حيث لم يكن للنووي كلام هو الصواب الواجب اعتماده ، ولا عبرة بالمخالف مطلقاً إلا أن يجتمع جميع المتأخرين عليه ، وادعى على ذلك الإجماع ، قاله في مقدمته على (الإيعاب) وعبارته رحمه الله "قد أجمع المحققون على أن المفتى به ما ذكراه ، فالنووي ، وعلى أنه لا يُغتر بمن يعترض عليهما بنص الأم ، أو كلام الأكثرين ، أو نحو ذلك ، لأنهما أعلم بالنصوص وكلام الأصحاب من المعترض عليهما ، فلم يخالفاه إلا لموجب علمه من علمه ، وجهله من جهله" انتهى من راجع مقدمة (العباب) ط دار المنهاج و(الفوائد المدنية) للكردي ص 40 ـ 41 ، لكن في الفوائد بعض تحريف.
ثم أيد دعواه الأعلمية بنصوص الشافعي بقوله : "ومما يدلك على ذلك أنهما صرحا بكراهة ارتفاع المأموم على الإمام ، وعمما ذلك ، لم يقيداه بمسجد ولا غيره ؛ فجاء بعض المتأخرين واعترضَ عليهما بأنه نص في (الأم) على أن محل كراهة ذلك في غير [ذلك] ، وتبعه كثيرون ، وملتُ إلى موافقتهم زمناً طويلاً ، حتى رأيتُ للشافعي نصاً آخر ، فإنه كره صلاة الإمام داخل الكعبة والمأموم خارجها ، وعلله بعلوه عليه ؛ فانظر كيف علما أن له نصين أخذا بأحدهما لموافقته من أن ارتفاع أحدهما على الآخر مخل بتمام المتابعة المطلوبة بين الإمام والمأموم ، وتركا النص الآخر لمخالفته للقياس المذكور لا عبثاً ، إذ مزيد ورعهما وشدة تحريهما في الدين قاضٍ بذلك ، ولو أمعن تفتيش كتب الشافعي والأصحاب ، لظهر أنهما لم يخالفا نصاً إلا لما هو أرجح منه" انتهى من (الفوائد المدنية) ص 41.
وقد بحثت عن صاحب الإعتراض في المكتبة الشاملة و(النجم الوهاج) و(البداية) لابن قاضي شهبة فلم أظفر بشيء .
بدا لي أن أتحقق المسألة المنقولة ، قبل ذكر هذه الملاحظات ، فبحثت عن المسألة ، وأصلها هو قول النووي رحمه الله في (المنهاج) : "يكره ارتفاع المأموم على إمامه وعكسه إلا لحاجة .. فيستحب"
وبحثتُ ثم عن المقصود بالمعترض المذكور ، وهو : 1. اعترض على الشيخين إطلاق الكراهة في المسجد وغيره. 2. صوب في المسألة الكراهة في المسجد. 3. اعتمد في اعتراضه على نص الشافعي .
وقول ابن حجر : "وتبعه كثيرون" ظاهره أن المسألة مشهورة ، فبحثت عنها أولاً في كتبِ ابن حجر والشيخ زكريا والرملي والمحشين، وعامة الكتب في (المكتبة الشاملة) ، فلم بأظفر بأكثر مما ذكره ابن حجر في النص المتقدم ، ولم أدرِ من هو هذا المعترض على الشيخين.
وقد كنتُ أقدر في أول الأمر أن المخالف هو الإسنوي رحمه الله ، فإنه كثير الإعتراض عليهما بنصوص الشافعي رحمه الله ، لكني لم أظفر له بخلاف في المسألة .
ثم رأيتُ في (فتاوى الشهاب الرملي) سؤالاً : "هل كراهة علو المأموم على الإمام عام في المسجد وغيره كما هو ظاهر إطلاقهم أم تختص بغير المسجد كما نقل عن فتوى العلامة ابن العراقي ومن صرح بذلك؟"
فبحثتُ عن فتوى العراقي ، فإذا هي لا تتعلق بالارتفاع حال كونه في المسجد أو في غيره ، بل حال كون الارتفاع ظاهره الدلالة على التكبر ولو لم يكن مقصوداً للمستعلي. (فتاوي العراقي) ص 169. وهو المقصود بقول ابن حجر : "وَعِنْدَ ظُهُورِ تَكَبُّرٍ مِنْ الْمُرْتَفِعِ وَعَدَمِهِ خِلَافًا لِمَنْ نَظَرَ لِذَلِكَ" (التحفة) .
كما أن العراقي لم يعترض بكلام الشافعي ، بل لم يعترض عليهما أصلاً.
فقلتُ : عساه تكلم فيه في (تحرير الفتاوى) فبحثت فإذا هو لم يتعقبهما بشيء في خصوص المسألة ، ولكن ذكر أن التعبير بعدم الإستحباب أولى ، وهو قريب من الإعتراض من حيث هو منكرٌ للكراهة فإنه قال بعد ذكر عبارة (التنبيه ) : "لا يزم منه أن يكون ارتفاعه مكروهاً ، وصرح في (المنهاج) بالكراهة ... وعبارة (التنبيه) موافقة لنص الشافعي" انتهى.
لكنه رحمه الله لم يفصل بين كون الكراهة في المسجد أو خارجه بل أطلق أن التعبير بعدم الإستحباب أولى.
فبحثتُ في الكتب الموجودة في الشاملة ، وفي (النجم الوهاج) للدميري ، و(البداية) لابن قاضي شهبة ، و(حاشية الشوبري على المنهج) وغيرها ثم مللتُ فتوقفتُ عن البحث.
فإن قيل : وما حاجتك وقد نقله ابن حجر وإن لم يصرح بقائله وهو ثقة مقبول النقل؟
قلتُ : إنما بحثتُ لأتأكد أنه ليس ثم احتمال وهم وخطأ في نقل المسألة ، فإنه قد يقرأ عبارة كعبارة السراج البلقيني : "ولا يشترط في السهل والجبل محاذاة الأسفل لأعلى جزءٍ، وإنما ذاك في البناء غير المسجد" (تدريب المبتدي) ، فيرى التفرقة بين بناء المسجد والبناء غير المسجد ، فينقل الذهن إلى المسألة السابقة ويخطئه ، بينما هو يتكلم في مسألة أخرى. وهذا ليس بالقليل النادر.
كما أردتُ أن أعرف من هو المعترض ، ومرتبته في العلم بالنسبة إلى غيره من المحققين الذين ربما اعترضوا على الشيخين.
ونعود إلى كلام ابن حجر ، فنقول : قوله ""قد أجمع المحققون على أن المفتى به ما ذكراه ، فالنووي ، وعلى أنه لا يُغتر بمن يعترض عليهما بنص الأم ، أو كلام الأكثرين ..."
هذا كلام ينقض آخره أوله ، حيث ابتدأ بذكر إجماع المحققين على اعتماد قولهما ، ثم أثبت وجود المعترض عليهما ومقتضاه أنه حيث اعترض لم يعتمد قولهما.
فإن قيل : إنما نقل إجماع المحققين.
قلنا : فهل تزعمون أن ابن الرفعة والإسنوي والنشائي والسبكي والبلقيني والولي العراقي والأذرعي والحصني ليسوا من المحققين؟ وكل هؤلاء اعترض مسائل قال بها النووي ولم يجتمع المتأخرين على صحة الاعتراض.
بل من المعترضين بعض شيوخ ابن حجر ، بل ابن حجر نفسه كما في تيمم من لم يجد طبيباً بالشرط ، فقال بالتيمم تبعاً للبغوي ، وخلافاً للنووي ، وهي مسألة لم يجتمع على المتأخرون ، لذا قال الشربيني والرملي بأنه لا يتيمم موافقة للنووي.
فأي إجماع هذا الذي لا نحفظ به قائلاً عاملا.
ومجرد أن يقول أحد المحققين أن تحقيقاتهما معتمدة معتبرة صحيحة ، لا يفيد أنه لا يعترض عليهما قط ، فإن ممن ذكر ذلك الإسنوي نفسه ، وأين ذكره ؟ في مقدمة كتابه (المهمات) !
فلا يفهم من إطلاق هذه العبارات ونحوها تأييداً لدعوى الإجماع المتقدمة.
أما المسألة المذكورة ، على فرض صحتها ، فلا نسلم إفادتها المدعى ، وهو أنهما أعلم بنصوص الشافعي من غيرهما ، كيف وقد بين الإسنوي أن الرافعي إنما كان ينقل عن بعض كتب الشافعي بواسطة الإمام الجويني ، وأنه لم يقف عليها بنفسه ، وسمى ما اطلعا عليه ، وسمى هو من الكتب التي لم يطلعا عليها (الإملاء) و(الأمالي) و(غاية الإختصار) ، كما سمى من كتب أصحاب الوجوه وغيرهم مما لم يطلعا عليه جملة وافرة.
وهو أتقى لله وأورع من أن يتخرص عليهما ذلك ، ويقدر الجهل فيهم تقديراً من رأسه ، بل بناه على تصريحهما أحياناً وعلى الأصل المعتضد بالمخالفة أحياناً أخرى ، والنقل عن غيره أحياناً.
أما الأول : فكأن يقول النووي أو الرافعي : لا أعرف فيها نقلاً عن الأصحاب ، ثم يستدركه الإسنوي عن النص الشافعي نفسه ، أو نصه بعض أصحابه وأصحاب الوجوه.
أو أن يحكم الشيخان أو أحدهما حكماً باعتماد البحث الفقهي ، وهي منقولة عن إمام المذهب أو بعض أصحابه وأصحاب الوجوه.
أو أن يحكما حكماً مخالفاً لنص الإمام من غير بيان مستند نقلي ، فيعترض عليهما المعترض بثبوت النقل ، وهو ما رده ابن حجر بأنهما أعلم بنصوص الشافعي ، وأنهما قد يكونان اطلعا عليه وعلى نص آخر للشافعي لم يطلع عليه المعترض .
وقال : "لا يقال أنهما لم يروه؟ لأن ذلك ترجٍّ لا يفيد ، على أنه شهادة نفي. بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها ، وصرفوها عن ظاهرها بالدليل"
وهذا كلام غير مقبول ، بل الأصل عدم الإطلاع ، وهو متأيد بالمخالفة له ، ودعوى الإطلاع لو سلمنا ظهوره ـ ولا نسلمه ـ معارض للأصل المتعضد وهو خلو عن قرينة تؤيده ، سوى ما يكرره من فضلهما وسعة اطلاعهما ، وهو ما يقر به نفس المعترض عليهما الراد لقولهما ، ولا يفيد ، فإن سعة الإطلاع الجملي مسلم فيهما ، أما التفصيلي على قول قول في مسألة مسألة ، فإن هذا لا يقبل لمجرد ثبوت الإطلاع الجملي ، ولا يكفي فيه التغني بفضائلهما رحمهما الله.
وعلى كل حال لو سلمنا له الإستدلال فلا ينفعه حيث صرحا بأن لا علم لهما بنقل سابق ، أو صرحا بما يفيده ، كأن ينقلا إجماع الأصحاب على قول مع أن الخلاف موجود ، وبخاصة إن كان الخلاف عن إمام المذهب ، أو يصرحا بأن القول الفلان لم ينقله سوى فلان ، فيتعقب عليهما بأنه نقله أيضاً فلان وفلان من الناس.
وهذا في كلام المتعقبين كثير ، وقد قدمنا له أمثلة.
... يتبع ...