عقبات في طريق تعلم أصول الفقه
جرني الحديث بالأمس مع أحد الزملاء إلى موضوع الاستحسان، فذكر أن الاستحسان يُحتاج إليه للتخفيف من المشكلات الناتجة عن طرد القياس والتوسع فيه. فقلت: ولماذا نسيء استخدام القياس حتى نحتاج إلى أن نستحسن؟ فإذا استخدمنا القياس بالطريق الصحيح لن تكون هناك مشكلة، ولن نحتاج إلى حلّها بالاستحسان! إن التخليط الذي وقع في القياس هو الذي صنع المشكلة، وهو الذي أوجد تربة خصبة لابن حزم ليسوِّد مئات الصفحات في كشف سُقم تلك الأقيسة والسخرية منها أحيانا. وليت مشكلة سُوء استخدام القياس حُلَّت بحل شاف! إن محاولة حلها بالاستحسان هو إحالة على شيء مجهول الماهية نتجت عنه مشكلات لا تقل عن تلك التي نتجت عن سوء استخدام القياس.
هذا الأمر أعاد إلى ذهني صورة لا تكاد تغيب عنه، وهي ما رأيته مرات عندما ينسد طريق ما لسبب ما، ويسبب ذلك إعاقة مؤقتة لحركة المرور. وبدلا من الانتظار لوقت ما حتى تُحلّ المشكلة وتعود حركة المرور إلى انسيابها، تبدأ السيارات تتوافد من كل مكان في جميع الاتجاهات الممنوعة، وتزدحم السيارات وتنسدّ جميع المنافذ، وتتعقد المشكلة. وقد تنحلّ المشكلة الأم بعد مدة من الزمن، ولكن تبقى الحركة معطلة؛ لأن القوم قد عرقلوا الحركة في جميع الاتجاهات، وانسد الطريق من الجهتين. ومن أطرف ما رأيته في بلد من البلدان، وهو محلّ الاستشهاد هنا، أن السائقين ينزلون من سياراتهم ببرودة أعصاب، بعد أن يكونوا قد سدُّو الطريق، ويبدأوا في المشاورات حول كيفية حلّ المشكلة، وتبدأ المحاولات، وبعد وقت طويل وجهود كبيرة ترتسم على الوجوه علامات الاستبشار والرضا بتمكنهم أخيرا من حلّ المشكلة، وينصرفون فرحين بقدرتهم على حلّ المشكلة، وينسون أنهم هم الذين صنعوا المشكلة من الأساس، ولولا صنيعهم لما كانت هناك مشكلة تحتاج إلى تضييع الوقت والجهد لحلِّها.
إنها العقلية التي تصنع مشكلةً، هي في غنى عنها أصلا، ثم تبدأ بعد ذلك في تضييع الجهود والأوقات لحل تلك المشكلة، وربما ولَّدت المعالجة الخاطئة لتلك المشكلة مشكلات أخرى، ثم يبدأ البحث عن حلول لتلك المشكلات التي تولّدت عن تلك المعالجة الخاطئة، وهكذا تستمر المتوالية!
ولأن الخلل الذي يكون في طريقة التفكير يمتد من الحياة الاجتماعية إلى الحياة العلمية، فصاحب التفكير واحد هنا وهناك، والثقافة مشتركة، فإننا نجد في العلوم الشرعية شيئا من عقليّة صناعة المشكلة ثم البحث عن حلّ لها.
ومن أمثلة ذلك أن المتأخرين من الأصوليين أدخلوا فيه علم المنطق، ومن قبلُ أدخل فيه علماء الكلام المسائل الكلامية واصطلاحاتها، وهي كلها أمور لا حاجة لعلم أصول الفقه بها. وبعد أن صنعوا المشكلة بأنفسهم اشترطوا على دارس هذا العلم أن يبدأ بتحصيل علم الآلة، وهو المنطق. وأصبح علم أصول الفقه في مؤلفات المتأخرين، التي صارت هي السائدة، غولا يخاف طلاب العلم الاقتراب منه.
وصار الطلاب المساكين يقضون شهورا وربما سنوات في تعلم منطق صوري تجاوزه الدهر (علمه لا يزيد ذكاء وجهله لا يورث غباء) من أجل فهم مسائل أصولية هي في أصلها يسيرة الفهم، ولا يحتاج فهمها إلى علم المنطق، وإنما جاء عُسرها من عبارات الذين صنعوا المشكلة.
ولما رأوا أن هذا لا يكفي في حل المشكلة، أضافوا حلا آخر، وهو وضع كتب تتدرج بطالب علم الأصول بين مبتدئ ومتوسط ومتقدم. ونتج عن هذا "الحل المعيب" مشكلات أخرى، منها تضييع أوقات الطلاب؛ فبدلا من أن يدرس الطالب هذا العلم مرة واحدة أو مرتين، صارت دراسته تحتاج مراحل متعددة، ومرات كثيرة. وأسوأ من ذلك أن الكثير مما يتعلمه الدارس من تلك الكتب هو مسائل منطقية وكلامية ضعيفة الصلة بحقيقة علم أصول الفقه، والكثير منها نشأ نتيجة المجادلات بين مختلف الفرق والمذاهب.
وكان الأجدر أن لا تُصنع المشكلة من أصلها، فيُمسك أصحاب الكلام كلامهم لتخصصهم، ويُمسك أصحاب المنطق منطقهم لتخصصهم، ولا يحشروا بضاعتهم في علم أصول الفقه.
وحتى بعد وجود المشكلة، كان الأولى أن تُحل من أصلها، فتصّنف كتب جديدة في أصول الفقه خالية من تلك العلائق الدخيلة، وبذلك يتم تجنُّب الحلول التي تصنع المشكلات الجديدة.
وكم أشفق على طلاب العلم وهم يتساءلون عبر مختلف المواقع عن الطريقة المثلى التي يسلكونها لتحصيل هذا العلم، وكيف يتدرجون في تحصيله؟ وما الكتاب الذي يبدأون به، ثم الكتاب الآخر الذي ينتقلون إليه؟
ومن أمثلة ذلك مبالغة أنصار المنطق الصوري من الفقهاء والأصوليين في البحث عن التعريف "الجامع المانع" الذي يسلم من الاعتراضات، فنتج عن ذلك الإلغاز في التعريف، واحتاج الأمر إلى تسويد صفحات كثيرة من أجل شرح التعريف وإخراج المحترزات، وصارت التعريفات التي يقصد بها إعطاء فكرة عامة عن المعرَّف بعبارة موجزة، لا تعطي تلك الفكرة إلا بعد قراءة صفحات الشرح والاحتراز.
وانظر مثلا تعريف الشرط عند بعض أصحاب "التعريف الجامع المانع"، حيث عرفوه أنه: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. وهو كلام مجرد يدور بين الوجود والعدم، ولا يعطي فكرة عن حقيقة الشرط.
وانظر إلى تعريف الشاطبي المتحرر من هاجس "الجمع والمنع": ما كان وصفا مُكمِّلاً لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط، أو فيما اقتضاه الحكم فيه.
ومن أمثلة ذلك بعض المباحث في علم الأصول التي تؤدي إلى تشويش الأذهان وإثارة الخلافات التي لا أصل لها. ومنها مبحث الاستحسان الذي قل ما تجد طالبا من طلاب العلم درسه وخرج منه بصورة واضحة. ولا لوم عليهم في ذلك، فهو لم يكن واضحا حتى عند أصحابه الذين نظّروا له ورفعوا لواءه، فاحتاروا في تعريفه وضبط مفهومه، وتاهوا بين نصب الاحترازات ورد الاعتراضات الكثيرة. واستقرّ المتأخرون منهم على جمع مباحث من الأصول تتعلق بالاستثناء والترخص ووضعوها تحت عبايته، فصار كأنه موضوع له حقيقة، ولكنها في الواقع حقيقة مستعارة لا أصيلة. (انظر هذا البحث: http://www.feqhweb.com/vb/t13716.html)
وكم احتار عند الوصول إلى هذا الموضوع كيف أدرِّسه؟ وكيف أوضح للطلاب شيئا هو في أصله غير واضح؟ وهل أكتفي بأن أكرر لهم ما هو موجود في الكتب؟ مع إدراكي لما في ذلك من غموض واضطراب، فأنقل إليهم صندوقا أسود لينقلوه إلى الأجيال القادمة بتلك الصورة؟ أم أقول لهم إنه مصطلح ليس له حقيقة مستقلة ولا واضحة؟ وأنه نشأ نتيجة التمسك بعبارات بعض الأئمة ومحاولة التنظير لذلك التمسّك، وأن حذفه من مباحث أصول الفقه لن ينقص منها شيئا، بل سيزيد في وضوحها وانضباطها.
ومن أمثلة ذلك عدم الدقة في صياغة بعض القواعد الفقهية، مثل قاعدة "لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان". فهي قاعدة لم تتم صياغتها بشكل دقيق، وأدت تلك المشكلة في الصياغة إلى غموض معناها واحتاج الأمر إلى شروح لبيان المراد بالأحكام التي تتغير بتغير الأزمان، وأساء البعض فهمها فأراد أن يستدل بها على تغيير الأحكام الشرعية. ولو أن القاعدة أُعيدت صياغتها بالصورة الآتية: "لا ينكر تغير الأحكام القائمة على الأعراف بتغير تلك الأعراف"، أو بأي صيغة بهذا المعنى، لكان يكفي في حل المشكلة إضافة بضع كلمات إلى القاعدة لا تحتاج كثيرا من الحبر ولا تزيد عسرا في الحفظ، ولكنها تغني عن الكثير من الشروح، وتزيل الكثير من الالتباس، وتمنع استغلال القاعدة من قبل الجاهلين أو المغرضين.