ضميمة إلى بحث (الاستحسان عند المالكية)
عندما وضعت بحثي عن الاستحسان عند المالكية على هذا الموقع عقّب أحد الإخوة الفضلاء على الخلاصة التي توصلت إليها من التشكيك في ثبوت نسبة الاستحسان بأبعاده الأصولية إلى الإمام مالك، وكان من كلامه أن: "نفي الاصطلاح اللفظي للاستحسان عن مالك مع وروده عنه برواية الثقات وبنص المدونة في أكثر من موطن تدرعا بأن ذلك رواية بالمعنى لا أراه سائغا؛ لأن حمله على المعنى رجم بالغيب، وهو خلاف الظاهر."
ولما استشهدت بإنكار القاضي عبد الوهاب المالكي ورود القول بالاستحسان في أقوال مالك، عقّب على ذلك بقوله: "لا يسوغ إسقاط صريح ألفاظ المدونة في مواضع، وهي أوثق كتاب عند المالكية في النقل عن الإمام بعد الموطأ وبعضهم يقدمها على الموطأ، ثم صريح أقوال أئمة المذهب من تلاميذ مالك وأصحابه لا سيما ابن القاسم الذي صحبه معظم سني عمره، بقول القاضي عبد الوهاب وإن كانت له مكانته."
وما يشير إليه الأخ الفاضل من رواية الثقات أبرزه ما نُسِب إلى الإمام مالك أنه قال: "الاستحسان تسعة أعشار العلم".
والغريب أن هذه الرواية شاعت في كتب المتأخرين، وقد حاولت العثور عليها في المدونة الكبرى فلم أجد لها أثرا. وأقدم مرجع عثرت عليها فيه هو كتاب البيان والتحصيل لابن رشد الجد، حيث جاء في كتاب الاستبراء من الجزء الرابع أن أصبغ قال: "والاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس، وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروى عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان". (ابن رشد الجد، البيان والتحصيل، ج4، ص155.)
وفي المجلد الخامس من البيان والتحصيل: "وقد كان ابن القاسم يقول: ويروى عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان". (ابن رشد الجد، البيان والتحصيل، ج5، ص58.)
وهذا الكلام يفيد أن ابن القاسم لم يسمع من مالك هذه العبارة، وإنما سمع ذلك يُروى عن مالك، ولا ندري ما طريق تلك الرواية ومدى صحتها؟ ومعلوم ما في كتب الفقه والأصول من قلة التدقيق في الروايات والنقول.
أما كون ما في المدونة غير منسوب بلفظه إلى الإمام مالك، بل بمعناه فقط لا يخفى، فهو أمر لا يخفى، بل إن مضمون المدونة فيه تأثر واضح باصطلاحات أهل العراق، إما لتأثر بعض أتباع مالك باصطلاحات تلك المدرسة، أو بسبب أصل المدونة، وهو كتاب الأسدية لأسد بن الفرات. وقد وجدت كلاما لابن تيمية يؤيد ذلك، حيث يقول: "ومعلوم أن مدونة ابن القاسم أصلها مسائل أسد بن الفرات التي فرعها أهل العراق. ثم سأل عنها أسد ابن القاسم فأجابه بالنقل عن مالك، وتارة بالقياس على قوله، ثم أصلها في رواية سحنون. فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى أقوال أهل العراق وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة." (رسالة لابن تيمية بعنوان: تفضيل مذهب مالك وأهل المدينة وصحة أصوله، تحقيق أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي (القاهرة: دار الفضيلة، د. ت)، ص70).
وقد وجدت كلاما لابن العربي - وهو من المنظرين للاستحسان في المذهب المالكي- يشير إلى أن كلامه في تفريعات الاستحسان من تخريجاته، وليس مرويا عن الإمام مالك؛ وذلك قوله: "واختلف أصحاب أبي حنيفة في تأويله على أربعة أقوال. وأما أصحاب مالك فلم يكن فيهم قويّ الفكر ولا شديد المعارضة يُبْدِهِ إلى الوجود، وقد تتبعناه في مذهبنا وألفيناه أيضا منقسما أقساما...". (ابن العربي، المحصول في أصول الفقه، اعتنى به حسين اليدري، (الأردن: دار البيارق، 1420هـ/ 1999م)، ص131.)
ولعل من الإخوة الفضلاء من اطلع على غير هذا فيفيدنا به مشكورا مأجور.